القدس وغزة عاصمتان للثقافة السياسية العربية

02:29 صباحا
قراءة 3 دقائق

في إطار آخر غير الإطار الموسمي السنوي الذي وصل فيه الدور عام 2009 إلى اختيار القدس عاصمة للثفافة العربية، فإن مدينتي القدس وغزة الفلسطينيتين، قد انتزعتا منذ وقوعهما تحت الاحتلال في العام ،1967 وحتى العقد الأول من القرن الجديد، موقع العاصمتين الدائمتين للثقافة السياسية العربية، الأولى بعد أن وصلت معاناتها إلى ذروة النشاط الاحتلالي التهويدي بترحيل السكان والاستيطان وتقطيع الأوصال بالجدار العازل، والثانية بعد أن وصلت معاناتها إلى ذروة سحق الإرادة السياسية والاقتراب من تصفية القضية الأصلية كلها، بالحصار والإبادة الجماعية والمحاولات المتكررة والمختلفة الأساليب لكسر إرادة المقاومة كسراً نهائياً.

فالذي حصل مع مرور أربعة عقود ونيف على هزيمة ،1967 التي جرفت فيما جرفته، عصر المد القومي، أن الثقافة السياسية العربية، في الدوائر العربية الرسمية أولاً، ثم في الدوائر الشعبية بعد ذلك، تحت ضغط التيئيس والإحباط وغسل الدماغ الإعلامي المتواصل، هذه الثقافة السياسية قد أدمنت بالتدرج الانحراف عن بوصلة الحقائق التاريخية والسياسية للصراع العربي الإسرائيلي، في أكثر من مجال، منها:

إننا نسينا أننا قبل نكسة ،1967 كنا نناضل، رسمياً وشعبياً تحت شعار تحرير فلسطين. وانتقلنا بكل بساطة إلى اختزال القضية في استعادة الضفة الغربية وقطاع غزة، ثم ما تبقى منهما وقد أصبح لا يتجاوز الخمسة عشر في المائة من أرض فلسطين التاريخية. ولم نعد نسأل أنفسنا أنه إذا كانت هذه هي حدود القضية، فعلى ماذا كان النضال مشتعلاً بين الأربعينات والستينات، عندما كانت الضفة والقطاع، في أيدٍ عربية؟

نسينا أننا كنا جميعاً نسمي قضية فلسطين، جيلاً بعد جيل، قضية الصراع العربي الإسرائيلي، فأصبحنا بعد اتفاقية كامب دافيد واتفاقية وادي عربة (وحتى قبل استرداد الجولان السوري وشبعا اللبنانية) نعتمد تسمية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وانطلق كثير منا إلى إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل، حتى وهي تصفي أمام أعيننا كل عناصر ما سميناه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

بينما كانت مصر تزود في عقد الخمسينات ثوار الجزائر بالسلاح، تحت عيون الاحتلال الفرنسي، وتحدياً له، وتحملاً لعقوباته، فقد أصبح تزويد المقاومة الفلسطينية بالسلاح في العقد الأول من القرن الجديد، يسمى تهريباً للسلاح، سرعان ما تجتمع إرادة إسرائيل وبعض الإرادة الدولية وبعض الإرادة العربية، لمراقبته حتى منعه منعا كاملاً، إذا كان ذلك ممكناً، وفي وقت ما زال فيه الدمار الإسرائيلي يخيم على قطاع غزة.

غير أن ماساة غزة الأخيرة، التي يمكن اعتبارها، تلخيصاً راهناً لجميع المشاهد المأساوية المتلاحقة على أرض فلسطين منذ ثلاثينات القرن الماضي، جاءت أشبه بالزلزال السياسي الذي ضرب المنطقة العربية من محيطها إلى خليجها، وأحدث ارتدادات واضحة ومؤثرة في جميع أرجاء الكرة الأرضية، حتى عواصم غربية اشتهرت حكوماتها بإدمان ممالأة المطامع الصهيونية، مهما فعلت.

الذين هالهم مشهد آثار هذا الزلزال، من حكماء وعقلاء ومعتدلين، تمنوا في قرارة أنفسهم أن تقتصر آثار الارتدادات العنيفة لهذا الزلزال، على النواحي الإنسانية فقط. ومن شدة ثقتهم بتحول ذلك من مجرد أمنية إلى حقيقة، انصرفوا بحماسة كبيرة نحو مواصلة مهمة محاصرة الإرادة السياسية الفلسطينية المقاومة، عبر المساعدة في منع تهريب الأسلحة، وذلك قبل إزالة الآثار الإنسانية الوحشية المدمرة لعدوان إسرائيل على قطاع غزة، بشراً وحجراً، حتى قيل إن إسرائيل قد دمرت البنية التحتية للدولة الفلسطينية المفترضة، أكثر مما دمرت البنية التحتية للمقاومة.

لكن آثار زلزال غزة السياسي على أرض المجتمعات العربية المدنية، ليست أبداً مشابهة لآثار هذا الزلزال في الدوائر الرسمية العربية.

لقد انهار مرة واحدة ذلك البنيان الذي حرصت كل الدوائر الرسمية على وجه الكرة الأرضية (بما في ذلك العربية) على إقامته منذ أربعة عقود، والذي يريد إلغاء صفة الصراع العربي الإسرائيلي عن قضية فلسطين، وحصره في أضيق الأطر الممكنة، كصراع فلسطيني إسرائيلي، ثم ضغطه بعد ذلك إلى أضيق مساحة ممكنة، قريبة من التصفية الشاملة للقضية، باعتباره صراعا لإسرائيل مع حركة حماس وحدها، وكأن القوى الملتفة حول السلطة الفلسطينية، قد صفت خلافاتها مع الاحتلال الإسرائيلي. يجري كل هذا وكأنه لا وجود لشيء اسمه شعب فلسطين، موزع بين أراضي ،1948 والضفة الغربية، وقطاع غزة، والشتات العربي، والشتات الدولي. وكأن قضية فلسطين لم تعد تعني لبقية الشعوب العربية أكثر من كونها مغامرة سياسية، من العصر المنقرض للمغامرات السياسية، آن وقت الخلاص منها.

وإذا كان الاختيار قد وقع على القدس عاصمة للثقافة العربية في العام ،2009 فقد فرضت القدس وغزة نفسيهما عاصمتين دائمتين للثقافة السياسية العربية، من الآن فصاعداً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"