القضاة ليسوا ملائكة معصومين ولكنهم بشر محترمون

04:31 صباحا
قراءة 5 دقائق

ثارت في ذهني خواطر وألحت علي أفكار وأنا أجلس في عزاء واحد من أبرز قضاة مصر وأرفعهم مكانة عندي وتقديراً لدى الجميع وأعني به شيخ القضاة المستشار الراحل وجدي عبدالصمد الذي لن أنسى ما حييت خطابه الرفيع أمام ولي الأمر رئيس الجمهورية فقد تحدث يومها، في منتصف ثمانينات القرن الماضي، من فوق منصة دار القضاء العالي مخاطباً الرئيس بلغةٍ راقية وأفكار سامية وآراءٍ نبيلة شدت الأسماع والأبصار، وذكّرت الجميع بعظمة القضاء المصري وشموخه، ولقد ظللت طوال جلسة العزاء أسترجع بعض ذكرياتي معه وكيف رأيت في شخصه موجزاً مشرفاً لروح القضاء المصري وضوابطه وسجاياه التي أسست للنظام القضائي في معظم الدول العربية، حتى لا تزال بعض الأقطار الشقيقة تزهو بالخبرة القضائية المصرية في تاريخها وحاضرها، وترى فيها علامة مضيئة ترصع سماء الفقه القانوني الذي تميز به من جلسوا على منصة القضاء قادمين من أرض الكنانة، لذلك فإنني لا أتصور أن هناك من يفوقني معرفة بقيمة القضاء المصري وقامته ومكانه ومكانته، إذ أراه دائماً في أبراجه العالية بعيداً عن صخب الشارع العادي منزهاً عن الانزلاق في بحيرة السياسة الآسنة، فضلاً عن أن انغماسه في الإشراف على العملية الانتخابية قد أدى إلى حالة من الانقسام داخل السلطة القضائية ذاتها، وكاد ينال من هيبة بعض رموزها، وينزل بها من سماء المهنة المقدسة إلى أرض الواقع الأليم، وأنا أعلم الآن أنني إذ أكتب هذه السطور فإنني كمن يمشي فوق الأشواك، ولكنني اخترت ذلك والعاقبة للمخلصين! فليسمح لي أصحاب المقام الرفيع والهامات العالية أن أطرح التصورات التالية:

* أولاً: إن الأغلب الأعم من قضاتنا هم رموز باسقة ينحني لها المرء إجلالاً وتقديراً، وما زلت أتذكر عندما دخلت قاعة المحكمة للمرة الأولى في حياتي شاهد نفي لصالح صحافي مصريٍ بارز كاد الإمام الأكبر الراحل يضعه خلف القضبان لأن ذلك الصحافي المتميز خشي على مقام الشيخ الكبير من زيارة خارجية لم يكن لها مبرر، ورأيت من واجبي أن أدلي بشهادتي فالساكت عن الحق شيطان أخرس، وما زلت أتذكر ذلك القاضي الجليل الذي عاملني يومها باحترامٍ ومودة وأنا أقف أمامه وسط حشد ضخم من رجال الإعلام والصحافة في قاعة المحكمة بدار القضاء العالي، يومها بهرني ذلك القاضي العالم بثقافته الرفيعة وهو يوجه لي أسئلة ذات طابع فكري حتى أصبحت المناقشة حواراً علمياً استفدت منه وخرجت يومها سعيداً بالقاضي والقضاء معاً . لقد بدأ يوجه لي في الجلسة أسئلة تدور حول مقولة للإمام محمد عبده وأخرى للشيخ محمد مصطفى المراغي، ويربط بين هذه العبارات المأثورة وذلك الحدث الذي كنا بصدده حتى كان الحديث سجالاً رفيعاً بين قاضٍ وشاهد، فقضاؤنا متميز وأجياله الجديدة مثقفة وأنا أعرفهم جيداً من المحاضرات التي أتشرف بإلقائها عليهم في مركز الدراسات القضائية أو في المركز القومي للبحوث الاجتماعية في الدورات التي تعقد لشباب القضاء والنيابة، كما أن زمالتي لعدد كبير من رجال القضاء البارزين وأعلام القانون في مصر أطلعتني على صفاتهم النبيلة وعلمهم الغزير وثقافتهم الواسعة وهي صداقات أعتز بها وأحافظ على مسافة الاحترام بيني وبين أصحابها حتى لو كانوا من أعز الناس .

* ثانياً: إن تاريخ القضاء المصري حافل بالقصص والروايات التي تؤكد تاريخه العريق وسجله الحافل، ونستطيع أن نسطر فيه الصفحات، وأن نكتب حوله الكتب ثناءً على مواقفه الخالدة، ومازلت أتذكر عندما دعاني نادي القضاة لإلقاء محاضرة جامعة تشرفت فيها بأن الذي كان يقدمني على المنصة هو وزير العدل الأسبق فاروق سيف النصر الذي كان معروفاً هو الآخر بلغته الكلاسيكية الرفيعة وإلقائه المميز، وكنت أتحدث يومها وذلك منذ قرابة خمسة عشر عاماً عن استقلال القضاء وأهمية ابتعاده عن الساحة السياسية كأنما كنا نقرأ في ذلك الوقت كتاباً مفتوحاً يطالع المستقبل . ويكفي أن نتذكر الآن أن القضاة هم الذين وضعوا تقليداً تاريخياً يمنع امتداح الأحكام القضائية لأن من يملك المدح لها يملك أيضاً القدح فيها وتلك خطيئة، فالحكم هو عنوان الحقيقة كما يقول الفقهاء الفرنسيون .

* ثالثاً: إن القضاء أكبر وأعرق وأعظم من أن يكون طرفاً في خصومة مهما كانت، وإذا تناوله أحدٌ بما لا يجب فإن على المجتمع كله أن يردع وليس القضاء وحده لأن هيبة الدولة من هيبة قضائها وقُضاتها . أقول ذلك بمناسبة بعض العبارات التي جرى اصطيادها من أستاذة جامعية مرموقة بحق أحد القضاة الأجلاء عقب الانتخابات الأخيرة، ونحن إذ لا نوافق إطلاقاً على ما قيل ولا نتدخل في مجريات التحقيق من قريبٍ أو بعيد إلا أننا نراها جزءاً من محنة الصحافة المصرية وانفعال المعركة الانتخابية، ولا أظن أن تلك الأستاذة الفاضلة تكنّ لهذا القاضي الذي لم تره في حياتها إلا كل تقدير واحترام واجبين، لذلك اعتذرت عن ذلك علناً في أكثر من موقع وقد كنت أربأ بالصحيفة التي نشرت ذلك الحديث أن تقع في ما حدث، وأن تنشر قولاً يمس أحد قضاتنا بل تأخذه عنواناً فيها، وقديماً قال آباؤنا ما شتمك إلا من أبلغك، فالجري وراء الإثارة الصحافية أصبحت له فاتورة عالية في المجتمع المصري حالياً وأنا واحد من الذين سددوا جزءاً ولو يسيراً من تلك الفاتورة ولي ملاحظة أخيرة أهمس بها وهي أن توصية نادي القضاة بإلغاء التعاقد مع معامل التحليل الطبي لتلك الأستاذة الجامعية والتي استجاب لها وزير العدل بفسخ ذلك العقد هي في ظني نوع من الضرب تحت الحزام وخلط للأوراق لا مبرر له وخروج على السياق إلى دروب جانبية خصوصاً أن المسألة برمتها أمام القضاء المصري العادل .

* رابعاً: إنني أؤكد هنا أن العصمة للأنبياء، بل إن الله سبحانه وتعالى عاتب نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم ووجه إليه لوماً إلهياً رفيعاً في أكثر من موضع في تنزيله الحكيم، لأن النبي كان بشراً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ولا عصمة لبشر فنحن جميعاً خطاءون وخير الخطائين التوابون، كما أن العقود الأخيرة قد أفرزت قلة محدودة من القضاة الذين عصف بهم جسد القضاء المصري ولفظهم منذ لحظة البداية حتى تعرض بعضهم للمحاكمة والمساءلة القانونية بعد التورط في بعض الجرائم الغريبة على ضمير القضاء المصري وتاريخه النظيف . وفي ظني أن ذلك الاستثناء القليل هو تأكيد للقاعدة التي تنص على طهارة القضاء المصري وسموه ورقيه، لذلك فإن من حقنا جميعاً أن نفاخر بقضائنا، وأن نضعه في مكانه اللائق وألا ننزعج كثيراً من عبارة هنا أو جملة هناك .

* خامساً: أدعو رجال القضاء المصري إلى المضي في طريق التسامح والعفو عند المقدرة، وأن يدركوا أنهم ليسوا أنبياء أو ملائكة، ولكنهم بشر يصيبون ويخطئون وليدركوا أن مكانهم في ضمير أمتهم يدعوهم إلى الترفع المعهود والتعالي عن الدخول في مهاتراتٍ لا مبرر لها، فالناس يرونهم دائماً حكماً لا خصماً، ويدرك الجميع هيبتهم وسمو المنصة التي يمثلها ذلك القضاء الجالس بل القضاء الواقف أيضاً .

هذه ملاحظات رأيت أن أسوقها في حذر شديد وموضوعية كاملة وإكبار واحترام لازمين تجاه سدنة العدالة، وأريد أن أهمس في أذنهم أن من يتطاول على أهل الثروة تفتح أمامه أبواب جهنم، ومن يتطاول على أهل السلطة قد يذهب إلى الجحيم، أما من يتطاول عليكم يا رجال الحق والعدل فإنه يلوذ بكم في النهاية وينتظر السماحة منكم، فلم يعد لدى المواطن العادي في هذا الوطن إلا حضنكم الدافئ وقلبكم الكبير حتى قال البعض إن مصر يحكمها القضاء والقدر، ولن تكونوا أبداً طرفاً في خصومة مع شعبٍ تستقيم بكم حياته ويستقر معكم أمنه ويمضي رافعاً رأسه لأن لديه أعرق جهازٍ قضائي في الشرق الأوسط بل في أمتيه العربية والإسلامية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"