القطبية الأمريكية وتمدّد الصين

03:49 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.إدريس لكريني

تبرز الممارسة الدولية على امتداد التاريخ الإنساني، أن مختلف الإمبراطوريات العالمية الكبرى، آلت إلى الانحدار والتراجع والانهيار؛ بعد فترة من الرقي والازدهار؛ نتيجة عوامل داخلية أو خارجية مختلفة.
استفادت الولايات المتحدة الأمريكية من انهيار المعسكر الشرقي ورحيل الاتحاد السوفييتي؛ بفرضها لنظام دولي آُحادي القطبية، تلعب فيه أدواراً طلائعية على المستويات: الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والعسكرية..، مستثمرة في ذلك إمكاناتها المختلفة، وانشغال مختلف الأقطاب الدولية الكبرى بقضايا وأولويات عديدة..
شهد مفهوم القوة في حقل العلاقات الدولية تطوراً كبيراً بالموازاة مع مختلف التحولات والتطورات، التي شهدها العالم؛ فبعد أن كان يقتصر على العامل العسكري والجغرافي والبشري، ثم الاقتصادي في مرحلة لاحقة، انضافت إليه عوامل أخرى أكثر حيوية وأهمية من قبيل اعتماد التكنولوجيا الحديثة والحضور الدبلوماسي الدولي، وفاعلية المؤسسات السياسية.
والظاهر أن هناك إمكانات ومقومات فريدة، عسكرية وسياسية وثقافية واقتصادية مدعمة بقدرات تكنولوجية هائلة، وإمكانات بشرية مدربة ومتطورة، مستندة إلى مؤسسات سياسية وقانونية داخلية قوية وفاعلة، إضافة إلى إمكانات إعلامية واسعة ومؤثرة، اجتمعت لدى الولايات المتحدة بشكل استثنائي؛ ما أسهم بشكل جلي في تعزيز حضورها الدولي الفاعل، واستفرادها بتدبير الشؤون الدولية في مختلف تجلياتها على امتداد عدة عقود.
ومعلوم أن أهمية المقومات العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، لا تتأتّى بامتلاكها فقط، بقدر ما تنبعث من القدرة على توظيف هذه القدرات في تدبير قضايا وأزمات دولية وإقليمية بشكل مباشر أو غير مباشر، وفي تعزيز الحضور الدولي، وهو ما ظلت أمريكا تنفرد به على امتداد السنوات، التي تلت نهاية فترة الحرب الباردة..
أسهم الغياب الملحوظ لمنافسين أقوياء، في تكريس هذه الزعامة ميدانياً، فاليابان التي لم تستطع التخلص بعد من مشاكلها الاقتصادية والمالية المتنامية، فقد اعتبر البعض أن التوسع الذي يشهده هذا البلد على المستوى الاقتصادي لا يرافقه مشروع استراتيجي يدعم الحضور الدولي لليابان عالمياً. فيما ظلّت روسيا لسنوات منشغلة بالمشاكل، التي أفرزتها المرحلة الانتقالية؛ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أما الاتحاد الأوروبي وعلى الرغم من إنجازاته الكبرى، فلم يتمكن من بلورة سياسة خارجية موحدة إزاء قضايا دولية وإقليمية عديدة، كما أن انسحاب بريطانيا أخيراً، أثّر بشكل سلبي في مسار هذا التكتل الإقليمي... أما الصين فقد ظلّت بدورها منشغلة بقضايا داخلية واستراتيجية لم تخل من تداعيات إيجابية على الحضور الوازن لهذا القطب دولياً..يعتقد الكثير من الباحثين أن التحولات الكبرى الجارية في الصين ستفرز حتماً مولد قوة عالمية؛ ستؤثر في مسار ومعالم النظام الدولي الراهن. فمكانة هذا البلد كقطب عالمي وازن تفرض نفسها بقوة - بحسب عدد من الباحثين في المجالات الاستراتيجية والمستقبلية- في ظلّ التحولات الدولية الراهنة، وما تشهده من انحرافات في عمل المؤسسات الدولية وتطبيقات مرتبكة لقواعد القانون الدولي، وإخفاقات النظام الدولي «الجديد»، الذي بشّرت به الولايات المتحدة على المستوى السياسي والدبلوماسي والاقتصادي..
وتمتلك الصين مقومات تجعل منها إحدى القوى الوازنة على الصعيد الدولي، فعلاوة على إمكاناتها البشرية الهائلة المتعلمة والمدربة، واتساع مساحتها، يشهد هذا البلد تطوراً اقتصادياً مذهلاً ومتسارعاً.. كما أنه يحظى بمكانة دولية متميزة؛ من حيث استثمار وتطوير التكنولوجيا الحديثة، واعتماد الطاقة المتجددة كاختيار استراتيجي، علاوة على إنجازاته على مستوى غزو الفضاء. فعلى المستوى البشري، يحتضن هذا البلد زهاء خمس سكان العالم؛ وهو ما يشكّل مقوماً أساسياً يخدم التنمية في أبعادها المختلفة.. فيما تمتد الصين على مساحة جغرافية شاسعة تختزن عدداً من الخيرات والثروات. وفيما يتعلق بالجانب العلمي والتكنولوجي، راكمت الصين جهوداً كبيرة لإدماج التقنيات الحديثة في مختلف القطاعات؛ ما جعلها ضمن أربع قوى دولية أكثر استثماراً في هذا المجال الحيوي؛ حيث تخصّص إمكانات مالية ضخمة في مجالات البحث العلمي واقتصاد المعرفة..أما على المستوى الاقتصادي، تستأثر الصين بنسب نمو قياسية عالمياً، وبأكبر الاحتياطات النقدية في العالم، كما أن اقتصادها لم يتضرر بشكل كبير، بتداعيات الأزمات المالية الدولية الأخيرة، مقارنة مع عدد من الدول الغربية، وتظل جاذبة للاستثمارات، بالصورة التي تعكس وجود اقتصاد قوي ومنفتح يضاهي اقتصادات الدول الكبرى..
وارتباطاً بالجانب العسكري، تخصص الصين ميزانية مهمة؛ لتطوير إمكاناتها في هذا الصدد، ما يجعلها تتموقع في المرتبة الرابعة عالمياً؛ من حيث حجم الإنفاق المخصص في هذا الشأن.. كما تمتلك أكبر جيش مدرّب في العالم يقدر بحوالي مليونين ونصف المليون عسكري، وجدير بالذكر أيضاً أن الصين ولجت النادي النووي منذ عام 1964؛ وأصبحت اليوم ضمن القوى الدولية الكبرى، التي تمتلك إمكانات واعدة في هذا الإطار..تحاول الصين بصورة هادئة وعقلانية تبوؤ مكانة دولية تليق بإمكاناتها المختلفة وبحضورها الدولي مع انفتاحها على عدد من الدول سواء في إطار التعاون شمال جنوب أو شمال - شمال؛ فقد عززت علاقاتها مع عدد من الدول العربية على عدة مستويات، وانخرطت بشكل جدّي في مكافحة الإرهاب على الصعيد الدولي.. وفي ترسيخ السلم والأمن الدوليين سواء عبر توظيف عضويتها داخل مجلس الأمن، أو عبر إعمال جهود انفرادية في هذا الخصوص..وتوظف الصين عناصر القوة الناعمة في تعزيز تمدّدها وحضورها الدوليين، كما تحاول تطوير مكانتها في النظام الدولي الراهن، بصورة مرنة؛ وذلك بالموازنة بين تمتين علاقاتها مع القوى الدولية الكبرى كروسيا وأمريكا والاتحاد الأوروبي من جهة؛ وبلورة علاقات متميزة مع الدول الصاعدة والنامية..
كما تحاول النأي عن أية مواجهة أو صدام مكلّف مع الولايات المتحدة، مع السعي الحثيث للعب أدوار طلائعية على مستوى التأثير في القرارات الدولية، والحرص على تحقيق وحدتها، واستقرار نظامها السياسي، ودعم انفتاحه على المتغيرات الداخلية والخارجية، والاستمرار في تحقيق التطور الاقتصادي بشكل تصاعدي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"