القوة الناعمة في الصراع السياسي

02:36 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

يُسخّر الخصوم السياسيون كل الأدوات الممكنة من أجل حسم الصراع لمصلحتهم، وبفضل هذا الواقع فقد اكتسبت الممارسة السياسية الكثير من سمعتها السيئة، إذ إن القوى المتصارعة مستعدّة في لحظة معينة للدخول في حرب مباشرة، بغضّ النظر عن التكاليف المادية والبشرية لتلك الحروب، وليست فقط الحروب بين الدول هي التطبيق العملي لهذه الحالة، بل أيضاً الحروب الأهلية بين أبناء المجتمع الواحد، ويحفل تاريخنا المعاصر بعشرات الحروب التي دفعت البشرية، كنتيجة لها، أثماناً باهظة، ويمكن القول إن أشرس تلك الحروب تجلّى في الحربين العالميتين، اللتين ذهب ضحيتهما عشرات الملايين، الذين ينتمون إلى دول وثقافات مختلفة.
الأشكال والأطر الدولية، مثل الأمم المتحدة، بوصفها شكلاً من أشكال الممارسة السياسية، حاولت وضع قوانين لضبط الصراعات السياسية، من أجل الحدّ من المواجهة المباشرة بين الدول، ولإعطاء الدبلوماسية فرصة في الوصول إلى تسويات بين الأطراف المتنازعة، بحيث يتم تحقيق مصالح الخصوم، من دون استعمال القوة المباشرة، لكن هذا لا يعني، ولا ينبغي أن يفهم منه، أن تلك التسويات لا تستند إلى موازين القوى، بل هي تنطلق فعلياً من موازين القوى، حيث إن الدول القوية عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً تحقق مصالحها على حساب الدول الأضعف.
لكن خوض الصراعات السياسية بين الدول، وبعضها صراعات استراتيجية، شهد تحولات كبرى في العقود الأخيرة، فقد أطلقت موجة العولمة الثالثة، منذ مطلع تسعينات القرن الفائت، ديناميات جديدة في الصراع، فقد سمح عصر المعلوماتية بنشوء أساليب وأدوات ضغط جديدة، أصبحت اليوم جزءاً لا يتجزأ من مشهد الصراع بين الدول والتيارات السياسية.
لقد سَمحت الموجة الثالثة من العولمة بإبراز مفهوم «القوة الناعمة»، الذي يرتبط أشدّ الارتباط بالقيم والقيم المضادة، كما أن استخدام هذه القوة يعكس مدى استجابة الأنظمة السياسية للتطورات العولمية، وقدرتها على التكيّف معها من جهة، وقدرتها على استثمارها في الصراع السياسي مع الخصوم من جهة أخرى.
لقد كسر العصر الرقمي الكثير من الحواجز بين الشعوب والدول، كما سمحت التكنولوجيا الرقمية بنشوء إمكانات كثيرة للاختراق والتأثير في الرأي العام، حيث أصبح الإعلام العمود الفقري للقوة الناعمة، بما يتضمنه من رسائل فكرية وثقافية وصور وأنماط، تسهم بدورها في صناعة رأي عام تجاه قضية محددة، من دون أن يعني ذلك، وبأي شكل من الأشكال، تطابق الرأي العام مع الحقيقة.
إن الإمكانات الهائلة للقوة الناعمة دفعت إلى المزيد من الاستثمار المالي /السياسي فيها، فقد أصبح بالإمكان حسم جزء كبير من الصراع عبر القوة الناعمة، فهي تتيح من بين ما تتيحه شيطنة الخصم السياسي، أكان دولة أم تياراً سياسياً أم رمزاً سياسياً، وتضخيم بعض الحالات، كما في حالة تضخيم مظلومية بعض الفئات الدينية أو الإثنية، وبالتالي خلق حقائق جديدة، لا تتطابق بالضرورة مع الواقع، لكنها تصبح، عبر القوة الناعمة، هي الواقع الفعلي.
تضع الدول اليوم، وخصوصاً الدول الكبرى، أو تلك الدول المنخرطة في صراعات كبيرة، ميزانيات كبيرة للاستثمار في القوة الناعمة، من أنشطة ثقافية وأكاديمية وديبلوماسية ودعائية وحملات إلكترونية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ضمن تصوّرات استراتيجية للصراع مع الخصوم الحاليين أو المحتملين في المستقبل، وبالتالي فهي تراكم فعلياً في حقل العلاقات الدولية، والثقافية، والإعلامية، وقنوات صناعة الرأي العام، وتوجد شركاء لها في أماكن صناعة القرار، يساعدون في تمرير مصالح اقتصادية وسياسية، ويساعدون عند الحاجة على تخفيف الضغوط.
وفي هذا السياق، يمكن التطرّق إلى مثال محدد وغاية في الأهمية، وهو الصراع الأمريكي الصيني، فعلى الرغم من الإمكانات الاقتصادية والتكنولوجية للصين إلا أنها لم تستثمر بما فيه الكفاية في القوة الناعمة الدولية، وقد تمكّنت الولايات المتحدة من القيام بحملة دعائية كبرى، هَدفت إلى صناعة رأي عام عالمي، ضد شركة «هواوي» الصينية، وإلصاق تهمة التجسّس بهذه الشركة، من أجل دفع هذه الشركة العملاقة إلى التفاوض مع الشركاء الأمريكيين والغربيين، وأفادت بعض التقارير أن مبيعات منتجات الشركة تضرّرت بنسبة كبيرة في أنحاء العالم، نتيجة تأثّر الأفراد المستهلكين بهذه الحملة.
وفي سياق سياسي محض، يمكن التذكير بالكيفية التي قامت بها الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا بتضخيم مسألتي اللاجئين والإسلاموفوبيا من أجل تحقيق مكاسب سياسية انتخابية، وقد نجحت تلك الأحزاب بدرجة كبيرة في مساعيها، وحصدت مقاعد كبيرة في برلمانات دولها، وفي البرلمان الأوروبي، نتيجة الحملات الدعائية الضخمة التي قامت بها، مستفيدة من الإمكانات الهائلة للميديا ومواقع التواصل الاجتماعي.
يبقى السؤال ما حصة استثمار العرب اليوم في القوة الناعمة ضد خصومهم الاستراتيجيين؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"