اللقاء الأخير

04:54 صباحا
قراءة دقيقتين

نادراً ما تلتقي شخصاً يحفر عميقاً في داخلك، يتسلل إلى مشاعرك، يبصم إيجابياً على حياتك، يثري شخصيتك، يأخذك إلى عالم المنطق والحرفية في كل قرار تتخذه أو عمل تؤديه .
يعلمك أن الكلمة مسؤولية، وكما أنها قد تُصلح أحياناً فإنها أيضاً قد تُفسد، وأنها سلاح وسهم يمكن أن يصيب ويقتل، ويحذرك من الاستخدام السيئ لها، بل ويطالبك بأن تزنها بميزان من الذهب، وأن تفكر في نتائجها جيداً قبل أن تكتبها وتنشرها على الملأ .
هذا هو الدكتور عبدالله عمران تريم، الذي عملت في رحابه 12 عاماً، اقتربت منه وتعلمت منه الكثير، بعد أن وجدت نفسي أمام رجل لا يتخذ إلا القرار الذي يريح ضميره الإنساني والوطني والقومي . يتبنى قضايا ويحمل هموم أمة بكاملها . تسعده كثيراً إنجازات الأمة، كما تزعجه كثيراً حال العرب وما آلت إليه أوضاع الأمة . وتصدى بنفسه وقلمه وعقله للمتربصين بها والمتآمرين عليها، ووجهنا نحن المحيطين به للانتباه جيداً لكل ما يحاك ضدها، وللسم الذي تحمله كلمات بعضهم عنها .
كان وأنت تتحدث إليه تشعر بأنك تجالس الضمير والوعي والحكمة . يطالبك بأن تكتب وتنتقد ولكن من دون أن تتجاوز أو تجرح . يأمرك بألا تقول إلا الحقيقة ولا تنساق وراء شائعات، ويعلمك كيفية اكتشاف الشائعة بمجرد سماعها .
كانت كل توجيهاته وقراراته تنبع من إيمان كامل بأن الإعلام رسالة والكلمة مسؤولية، وبعد أن ضلت بعض وسائل الإعلام الطريق وتحولت إلى أدوات لهدم الأمة، كان شاغله مستقبل هذه المهنة ودورها في المستقبل .
التقيته آخر مرة بعد منتصف ليل الأربعاء الماضي، وتلقيت الخبر المفجع قبل ظهر الخميس . أقل من 12 ساعة تغيرت خلالها الدنيا من حال إلى حال، وأصابتني الصدمة وأنا أسترجع فقط تفاصيل اللقاء الأخير . حملت إليه الصفحة الأولى كالعادة، واستمعت إلى توجيهاته كالعادة، وكانت ضحكته تفوق العادة، وكلماته المطمئنة الإيجابية تغمرني كالعادة، وبدا في قمة الراحة والسعادة ربما أكثر من العادة . لكن هذه المرة على غير العادة ترك الجريدة في الواحدة والنصف صباحاً ورحل ولم يعد في الصباح كما كانت العادة .
لم أكن أعرف أنني سأعرض عليه آخر صفحات يراها ويقرأها ويوافق عليها الدكتور، وأنها آخر مرة سأستمع إلى كلماته، ولو عرفت لأطلت البقاء معه ولحاولت أن أستمع إليه كثيراً لأستزيد أكثر وأكثر ممن كان بالنسبة لنا نحن جميعاً أبناء "الخليج" الظل والأمان والمعلم والموجه والوالد .
كانت شخصيته محور حديثي وزملائي وستظل توجيهاته وكلماته نبراساً لنا في صالة التحرير وعند اتخاذ أي قرار .
على دربك سنظل سائرين ويدنا بيد خالد ملتزمين بالعهد لتبقى "الخليج" كلمتك وصوتك ورسالتك وشعلتك التي لا تنطفئ كي تنير درب الحق في مسيرة الإمارات والأمة العربية .
رحم الله الدكتور عبدالله عمران وجعل أعماله وعطاءاته وحكمته في ميزان حسناته وأبقى صورته أمامنا وأمام أجيال الإعلام القادمة داعية حكمة والتزام وحرية مسؤولة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"