المثالية استراتيجية لبناء أمة

04:44 صباحا
قراءة 4 دقائق

لم يكن نيلسون مانديلا نبياً أو قديساً كما وصفه بعض محبيه . لم يكن حتى مناضلاً لاعنفياً، كما كان المهاتما غاندي، فقد حمل مانديلا السلاح بعد أن تدرب عليه في الجزائر وإثيوبيا . كان حريصاً على الدوام على نزع صفات القداسة عن نفسه، وما انفك يطلب أن تُقرأ سيرته بطريقة نقدية بما فيها من أخطاء وهفوات .
ولم تكن أهميته فقط في أنه "جسّد انتصار الروح الإنسانية" كما قال عنه بيل كلينتون، أو أنه أهدى حياته للكفاح من أجل مجتمع ديمقراطي يتساوى فيه البيض والسود أمام القانون، وبأنه كان حاضراً للموت من أجل هذا الهدف، وليس لأنه رفض عروضاً كثيرة بالخروج المشروط من السجن قائلاً لسجانيه إنه لا يساوم على الحرية، وليس لأنه وضع العشرة آلاف يوم التي قضاها في السجن خلفه والباقي من حياته في تصرف شعبه "ليس كنبي بل كخادم متواضع" كما قال للجماهير المحتشدة غداة خروجه من السجن . وبعد حيازته جائزة نوبل للسلام مع الرئيس لوكليرك العام ،1993 ثم بعد انتخابه رئيساً في العام التالي، أقسم أن "هذا البلد الجميل لن يعيش بعد اليوم اضطهاد البعض للبعض الآخر وأن الحرية هي التي ستسود فيه" .
أهمية مانديلا، إلى جانب كل ذلك، أنه قدم جديداً إلى علم السياسة، هو كيفية التوفيق ما بين المثالية والبراغماتية، بعيداً عن الأيديولوجيا، في استراتيجية عقلانية تمزج الأخلاق بالسياسة (على عكس ما قال به مكيافيللي) بهدف بناء أمة متصالحة مع نفسها ومع العالم، تحب نفسها ويحبها العالم . فلم يكن من السهل أن يحقق الوعود الطوباوية التي أقسم على تحقيقها في بلد الأبارتهايد الذي ارتكب بحق السود حزب المؤتمر
الوطني المجازر والاغتيالات والاعتقالات وكل أنواع القهر والاستبداد .
لقد خرج من سبعة وعشرين عاماً من الحبس الانفرادي والأشغال الشاقة، التي تركت آثارها في عينيه ورئتيه، ليس ليقف في وجه البيض الذين اضطهدوه بل في وجه أبناء جلدته المتعطشين للانتقام من البيض . لقد شكّل التسامح، بالنسبة إليه، ليس مجرد فعل أخلاقي، بل استراتيجية حقيقية أفضت إلى بناء "أمة قوس قزح"، كما قال ديزموند توتو الحائز جائزة نوبل للسلام، بسبب مناهضته للفصل العنصري . وكان تطبيق هذه الاستراتيجية ربما أصعب من الأشغال الشاقة في سجنه في جزيرة روبن آيلند .
كان يمكن لمانديلا، الذي انتخب رئيساً للجمهورية في العام ،1994 أن يجدد لنفسه لولاية أخرى ثم ثالثة ورابعة ومدى الحياة . وما كان لأحد أن يعترض على ذلك، بل على العكس لكان لاقى تأييداً عالمياً ومحلياً على السواء . لكنه أبى فاكتفى بولاية واحدة لينصرف عن السياسة منذ العام 1991 . وكان يمكن له أن يمارس سياسة تنحاز إلى أبناء جلدته من السود أو أنصار حزب المؤتمر تعويضاً عن الحرمان الطويل الذي عانوه، لكنه رفع شعار "التسامح من أجل السلام" و"العفو من دون النسيان"، وأنشأ "لجنة الحقيقة والمصالحة" التي منحت العفو لمرتكبي الجرائم السياسية خلال حقبة الأبارتهايد الذين يعترفون بجرائمهم ويعدون بفتح صفحة جديدة، الأمر الذي ألّب عليه كثيرين من رفاقه في حزب المؤتمر . وكان عليه أن يقف في وجههم بالحزم طوراً وبالإقناع تارةً، مبرهناً من جديد على براعة في مجال الاتصال والحوار والإقناع . وكان برع في هذا المجال من خلال التفاوض مع النظام بين عامي ،1990 تاريخ خروجه من السجن و1994 تاريخ انتخابه رئيساً . لم يتوقع أحد وقتها أن تنجو بلاده من حرب أهلية ومجازر وعمليات انتقام، وأن تحدث فيها انتخابات نزيهة يفوز فيها حزبه بنحو 62 في المئة من الأصوات .
خارج بلاده أيّد مانديلا حركات التحرر، من الجزائر التي تدرب فيها في بدايات شبابه إلى فلسطين التي شبّه الاحتلال "الإسرائيلي" لها بنظام الأبارتهايد، وقال يوماً "إن حريتنا تبقى منقوصة من دون الحرية للفلسطينيين" .
وفي 13 يوليو/تموز 2011 وجّه مانديلا رسالة-وصية إلى "ثوار العرب" يشرح لهم فيها أن المعضلة التي واجهته بعد خروجه من السجن كانت في كيفية التعامل مع إرث الظلم لإقامة نظام عادل، وكيف أن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم، ناصحاً إياهم بعدم التشفي وإقصاء رجال النظام السابق الذين يمسكون بمعظم المؤسسات الاقتصادية
التي قد يشكل استهدافها أو غيابها كارثة اقتصادية،
مذكّراً بأن أتباع النظام السابق هم في النهاية مواطنون ينتمون إلى هذه البلاد واحتواؤهم ومسامحتهم أكبر هدية للبلاد .
سال حبر كثير في مديح الرجل، وسوف يسيل المزيد في تعداد أوصافه وتحليل سيرته، لكن جانباً أساسياً ينبغي التركيز عليه هو ذلك المتعلق برجل الدولة الذي عاف الأيديولوجيا وتمسك بالأخلاق في ممارسة سياسة براغماتية جعلت من المثاليات استراتيجية توخت بناء أمة . وإذا كان غاندي ابتدع مفهوم اللاعنف فسيكتب التاريخ أن مانديلا اخترع مفهوم اللاانتقام في مقاومة الظلم والاضطهاد .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"