المثقف العربي ومتطلبات مرحلة الحاضر

04:28 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

وصف المفكر الراحل قسطنطين زريق المثقف بأنه هو الإنسان الذي يعتمد العقل في النظر إلى الأمور وفهمها، وفي الوقت نفسه يعتمد الضمير في الحكم عليها.
أما الفيلسوف الماركسي الإيطالي الشهير، غرامشي، فانه يضيف بأن المثقف إما أن يكون«تقليدياً» عندما يرتبط ويخدم المجموعات والطبقات التي في طريقها للسقوط، وإما أن يكون مثقفاً «جديداً» عندما يكون ناقداً للقديم ومساهماً في تجييش المجموعات الاجتماعية الصاعدة.. أي مثقف عضوي.
فما هو تعريف المثقف العربي، وما هو تصنيفه، في هذه الفترة البائسة من حاضر أمته العربية؟
الوقائع تقول إن وضعه بائس، كبؤس وضع أمته. فهو إما مطارد من قبل سلطات الأمن والتسلُط السياسي، أو أنه مشترى من قبل أصحاب المال والوجاهة والفساد، أو أنه منعزل يجتُر يأسه ويداوي جراح خيبات آماله وأحلامه المرُة تلو الأخرى.
نحن لسنا معنيين بالأشكال الثلاثة ولا بالعار الذي يلاحق بعضهم. نحن معنيون بالمثقفين الذين لا يزالون يؤمنون بأنُ قدرهم أن يكون لهم دور طليعي كمعترضين وناقدين ومبشرين بمشروع إنساني عادل، وأنهم يجب أن يؤدوا ذلك الدور حسب ضمائرهم وبشجاعة تامة مرفوعة الرأس. وبمعنى آخر يبدون استعداداً لأن يكونوا ضمير المجتمع وينطقون باسمه.
هنا يجب التذكير بأن تاريخ المثقفين في الحضارة العربية الإسلامية هو تاريخ مشرف، سواء أكانوا من الفقهاء، أو العلماء أو الفلاسفة وأصحاب الرأي. لقد واجهوا النفي والتشريد، وحرق الكتب، واستعداء الغوغاء، والسجون، بل وحتى التعذيب والموت.
ولذلك، ففي هذه اللحظة التي تزداد فيها سطوة الاستبداد السياسي من جهة، ويصعد الفساد المالي إلى أعلى القمم، وترتكب القوى التكفيرية العنفية أبشع الفضائح والحماقات باسم فهم متخلف متزمت للدين، في هذه اللحظة تبدو الحاجة للمثقف الملتزم، صاحب الضمير، العقلاني، المتوجُه لأنبل ما في الضمير الجمعي لأمة العرب، تبدو الحاجة شديدة ومصيرية.
لكن تلك الوظائف العامة للمثقف ستحتاج الى أن تحدد في أولويات حسب حاجات المرحلة التاريخية الصعبة التي تمر فيها جميع مجتمعات الوطن العربي، وإلا فإن المثقف العربي سيجد نفسه منغمساً في مماحكات إيديولوجية مع هذه الجهة أو تلك أو في طرح تصورات ليس الآن بالوقت الصالح لطرحها. ونحن هنا نتكلم عن القضايا الفكرية الثقافية وليس القضايا السياسية اليومية التي لها أولوياتها الخاصة بها.
في هذه اللحظة يحتاج المشهد العربي إلى إعطاء أولوية قصوى لموضوع الديمقراطية، وعلى الأخص جانب الحريات العامة والشخصية. إذ إن البعض يستغلُ حدوث أخطاء في حراكات الربيع العربي ليشوه ويسفه نظام الحكم الديمقراطي وليعلن، خدمة لقوى الاستبداد، بأن العرب ليسوا مستعدين حالياً للانتقال إلى الديمقراطية. وهؤلاء بالطبع، بصورة غير مباشرة، يطعنون في شعارات شباب الأمة المطالبة بالكرامة الإنسانية والحرية والعدالة الاجتماعية.
أما الأولوية القصوى الثانية فتتعلق بضرورة تحليل ونقد الجزء المتخلف من التراث الفقهي من أجل تجاوزه إلى قراءات أكثر عقلانية وعدالة وأكثر انسجاماً مع متطلبات العصر البالغة التعقيد، وكذلك نقد وتحليل التاريخ العربي لإبعاده عن إقحامه المستمر من قبل البعض في أمور الحاضر بحيث يصبح الماضي مهيمناً على الحاضر والمستقبل. وهذا التحليل التاريخي يجب أن يشمل تفكيك الأساطير والمبالغات وسوء الفهم بالنسبة لموضوعي القبلية والطائفية وبالنسبة للعادات والسلوكيات الفردية.
إن الجنون الذي أدخلته قوى التكفير في قلوب وعقول الكثيرين من شباب وشابات العرب يتطلب إخراجه بسرعة وبجذرية من خلال عمليات جراحية لأمراض التراث وعاهاته التي تجمعت عبر القرون وأضعفت عافية هذه الأمة وعافية الرسالة المحمدية نفسها.
إن إحدى مشاكل الثقافة والمثقفين في بلاد العرب هو عدم الحض القوي المستمر على مواضيع الأولويات والضياع في ألف معركة ومعركة دونكشوتية.
قد يختلف الآخرون حول الأولويات، وهذا شيء طبيعي. لكن المهم أن يوجد المثقفون المتناغمون للتركيز على أولويات هذه المرحلة، وعلى جعل تلك الأولويات أحاديث وكتابات ومعارك يومية لتوجيه وعي وأحلام وحيوية وتضحيات الإنسان العربي الذي تسعى الكثير من الجهات الخارجية والداخلية لإدخاله في متاهات اليأس والحيرة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"