المجتمع العُصبوي والمجال السياسي

02:39 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

من أظهر أعطاب أي اجتماع سياسي، من نوع تلك التي تضغط على وحدته وأمنه واستقراره، هشاشة التكوين الاجتماعي لاجتماعه الأهلي ورخاوة روابط الاندماج والانصهار فيه وبالتالي، استواء جماعاته في صورة تتخارج فيها عن بعضها وتتحدد بما هي بنى متمايزة لا تقوم بينها روابط الانتماء المشترك إلا على نحو شكلي واهٍ. يتعلق الأمر، في هذه الحال، بما يَقْبل أن نطلق عليه اسم المجتمع الأهلي التقليدي المنقسم أو غير المندمج؛ المجتمع الذي تتخذ جماعاته الأهلية شكل عصبيات، أي شكل جماعات متضامنة داخلياً على مبدأ يشكّل أسمنت لُحمتها. وقد يكون المبدأ ذاك دموياً (علاقات النسب والقرابة)؛ وهذه حال العصبيات القبلية والعشائرية والعائلية؛ أو روحياً (العلاقات الطائفية والمذهبية)؛ كما قد يكون مبناه على الجوار (العلاقات المناطقية). ولكن آلية الاعتصاب، التي تميز هذا المجتمع العصبوي، آليات انقسامية، على الرغم من أن الاعتصاب- في معناه - لا يقترن بالتضامن الذاتي فحسب، بل بالتوحيد. لا يَقْبل التحليل الماركسي مثل هذا التوصيف بدعوى أن هذه البنى العصبویة بنى سياسية وأيديولوجية، يتوهم المنتمون إليها بأنهم يتمتعون بكيانية اجتماعية خاصة ومستقلة، فيما هم- حسب النظرة الماركسية- لا يتحددون بعلاقات الانتماء العصبوي، بل بعلاقات الإنتاج السائدة.
ومَأتى الاعتراض الماركسي، على تقسيم المجتمع إلى بنى عصبوية مغلقة، من فرضيتین حاكمتين للتفكير فيه: أولاهما؛ أن الناس يتحددون بموقعهم في عملية الإنتاج الاجتماعي فيكونون بذلك برجوازیين أو برجوازيين صغاراً أو عمالاً أو فلاحين أو مهمشين، بصرف النظر عما يكونُه انتماؤهم الديني أو العرقي أو العائلي... إلخ؛ وثانيهما أن هذا التراتب الطبقي يخترق كل تلك الجماعات العصبوية ويوجد في داخلها؛ لذلك لا يصبح من معنى، أمام التفاوت والاختلاف في مصالح كل فئة، لافتراض مصلحة مشتركة جامعة بين أبناء كل عصبية، أو لتضامن داخلي بين مختلِفين في المصالح.
ليس الاعتراض هذا خاطئاً بإطلاق؛ وجه الصحة فيه التشديد على حاكمية العلاقات الإنتاجية الشاملة بنيات المجتمع كافة، والتي منها تتولد المصالح المتباينة بين فئات المجتمع. ولكنه يخطئ تقدير ما لذلك الذي يعتبره «وهماً أيديولوجياً» (الانتماء إلى عصبية ما) من آثار بليغة في المجال الاجتماعي وفي المجال السياسي، خصوصاً حينما تنجح القوى العصبوية (أو، قُل، نُخبها القائدة) في جر جمهور التابعين لعصبيتها إلى أحابيلها، مُوهِمة إياه بأن الانتظام في بنيتها ومؤسساتها وحده يضمن له مصالحه؛ إذ يضمن مصالح القبيلة أو العشيرة أو المذهب. إن الأدوار السياسية التي تنهض بها العلاقات العشائرية، مثلاً، أو الطائفية والمذهبية في الحياة السياسية هي مما لم تعُد تقبل التجاهل، وهي- في الوقت عينه- تقيم دليلاً على أن التحليل الماركسي؛ إذ يُغضي عنها، لا يستقي مادته من واقع موضوعي تاريخي، بمقدار ما يلوذ بالنصوص مستمسكاً ب«حقائقها»، معتصماً بفكرة «كونية» إجرائيتها، ذاهلاً عن أم الحقائق في هذا الباب: إن النصوص ليست مقاسات عامة تُفَصّل عليها الوقائع (وهو ما نحسب أنه جوهر الماركسية)، وإنما الواقع هو الذي يكتب نصوصَه أو، قُل، يفرض نوع المفاهيم المناسبة لتحليله وفهمه؛ من غير إسقاط أو استنساخ أو إدخال قسري للواقع في قوالب الفكر الجامدة.
إفساد الحياة السياسية، والمجال السياسي برمّته، بالعلاقات العصبوية وباستدخالها فيه، مراتب؛ فقد يكون «جزئياً»، وإن كانت آثاره عامة، وقد يكون كلياً مدمراً. الإفساد «الجزئي» نلحظه، مثلاً، في الاصطفافات السياسية التي تدخل عليها العلاقات العصبوية فتشوهها، وتحرفها عن معنى السياسة. من ذلك، مثلاً، الانتظام السياسي (في حزب أو تنظيم أو تجمع) على أساس عشائري أو طائفي؛ حيث تقوم «الهوية» الأهلية الفرعية مقام الهوية الوطنية الجامعة! ومن ذلك، أيضاً، التجييش السياسي والانتخابي للناس على أساس عشائري أو مناطقي أو طائفي أو مذهبي، وبالتالي، الانتهاء بذلك إلى تشكيل مؤسسات منتخبَة على الأساس نفسه الذي يتزوّر به التمثيل الشعبي! ومنه إسناد الوظائف، في الدولة أو في القطاع الخاص، إلى ذوي القربى العصبوية على حساب مبدأ الكفاءة والأهلية والاستحقاق...إلخ. أما الإفساد الكلي فنصطدم به في الحالات التي تتقسّم فيها العصائب سلطات الدولة وأجهزتها، فيقوم النظام السياسي فيها على مقتضى المحاصصة الطائفية أو المذهبية أو العشائرية؛ الأمر الذي يقيم النظام ذاك على توازنات هشة قابلة للاختلال، في أي لحظة أو أزمة، و- بالتالي- قابلة للانفجار. وكثيراً ما قاد تصنيع مثل هذا النظام إلى وضع الدولة والمجتمع معاً على كف عفريت، بل إلى الصدام الأهلي المسلح.
في الحالات التي ذكرنا، وفي سواها، يتبين إلى أي حد تشكل علاقات المجتمع العصبوي الانقسامي مَهْلَكة للاجتماع السياسي ومقْتَلاً، حين هي تدخُل على مجال السياسة وعلاقاته، وتتحول إلى دينامية من الديناميات الدافعة فيه. ويخطئ من يعتقد أن الحل يكْمَن في تحييدها عن المجال السياسي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"