المحاسبة والمساءلة أفضل من “العزل”

04:58 صباحا
قراءة 4 دقائق
في دول الربيع العربي من اليمن إلى تونس إلى ليبيا تنطلق منذ عامين على الأقل دعوات ل "العزل السياسي" لمسؤولين في الأنظمة السابقة، ويجري إطلاق هذه الدعوات "لتحقيق أهداف الثورة" هنا وهناك، وللحؤول دون عودة الأوضاع إلى سابق عهدها مع بعض التغيير في الوجوه، وهي مسألة لا يجانبها الصواب في بعض أوجهها، لكن تخالطها محاذير .
في أوجه الصواب، فإنه لا يُعقل حقاً أن يعود للتسيد والصدارة من كانت الإطاحة به هدفاً شعبياً عاماً، وأن من يعود بين هؤلاء في هذه الحالة، فسوف يكون أداؤه اسوأ مما سبق في التسلط على العباد بعد أن اطمأن إلى أن للتغيير حدوداً لا تمسّه، أو يعود لاستغلال النفوذ مجدداً لمصالحه الشخصية . إن العزل في هذه الحالة ينبغي أن يكون طوعياً من صاحبه، فمن مصلحته التواري تكفيراً عن الاخطاء، واحتراماً لإرادة عامة تنشد التغيير، وامتثالاً لمقولة "لكل زمان دولة ورجال"، وهو ما يحدث حتى في ظروف عادية يتم فيها التعاقب على السلطة، فما بالك في ظرف تغييرٍ جارف أملته إرادة شعبية؟
لكن دعنا نتساءل هنا: من المولج بتنفيذ العزل السياسي؟
الجواب إنه "الشعب" أولاً . الشعب بمن يختاره من ممثليه إلى البرلمان وكل الهيئات المنتخبة من بلديات ونقابات وأحزاب وجمعيات وسواها . في القناعة أن عزلاً يتم عبر صناديق الاقتراع هو أنجع وسيلة لإقصاء من لا يرتضيهم الرأي العام، وهو مظهر من مظاهر تجسيد الإرادة لشعبية، دونما إثارة منازعات أهلية وتوترات اجتماعية من أي نوع . وليست هذه بطبيعة الحال الوسيلة الوحيدة لتصويب المسار ومساءلة المرتكبين . فهناك العدالة التي يمثلها القضاء . وبما أن سجل العدالة لم يكن ناصع البياض في عهود سابقة تمت الإطاحة بها، فإنه يتعين أن يتسم العهد الجديد بالتزام أكبر وأشد نزاهة بمقتضيات العدالة . وفي هذه الحالة فإن كل من مارسوا الجور والعسف، فإن العدالة أن تستدعيهم لمساءلتهم، مع ما يرافق ذلك من اجراءات قانونية واجبة الوفاء بها كأن تكون صحيفة الاتهام موثقة، وأن يصار إلى استدعاء شهود وتأمين استعانة المتهمين بمحامين . . إلى آخره .
غير أن تحفظاً يثار هنا حول القانون الذي ينبغي أن يستظل به القضاة لإنفاذ العدالة . ومن يضع هذا القنانون وخدمة لأية غاية؟ القانون تضعه السلطتان التنفيذية والتشريعية معاً، وبما ينسجم مع أحكام الدستور . ولا بد من تطبيق العدالة على كل من ارتكب مخالفات وتجاوزات جسيمة متمتعاً بموقع سلطوي في العهد السابق، سواء لدى السلطة التنفيذية أو لدى حزب حاكم .
على هذا النحو يغدو العزل أحد مخرجات العدالة ومصداقاً عليها .
يعرف من يعرف وهؤلاء كثيرون أن ثمة من تمتع بموقع رفيع في ليبيا أو تونس أو اليمن من دون أن يكون على وفاق بالضرورة مع كل أوجه أداء السلطة . وأن هناك من يؤمن بالسعي إلى "التغيير من الداخل" أي عبر المشاركة بالحكم، وسواء كان مصيباً في رأيه هذا أم لا، فإن مجرد وجوده في السلطة لا يدينه . خاصة أن السلطة في نهاية الأمر وكما يفترض لها أن تكون مُلكٌ للشعب .
لا يتصور المرء أن مسؤولاً تكنوقراطياً يمكن ان يُحتسب من رجال العهد البائد، إذا كان قد حاول من موقعه السابق خدمة الجمهور، أو رفع مستوى الخدمات وتعميمها . علما أنه في بعض الحالات وفي بلد كليبيا على سبيل المثال فإن رفض استلام موقع رفيع ما، كان يودي بالرافض ويجعله هدفاً سهلاً وفورياً للعقوبة .
ينسحب ذلك على من انضوى في أحزاب سلطوية وتنفيذية، ففيما يتعين محاسبة من أثروا ثراء غير مشروع بالاستفادة من موقعهم، أو مارسوا العسف والتنكيل بحق عباد الله باستغلال موقعهم الحزبي/السلطوي، كما يتعين حل الحزب السلطوي، فإن توسيع دائرة الاتهام لتشمل كل من انضوى في ذلك الإطار الحزبي أمر لا يخلو بدوره من غلو، فسواء تم الانضواء بداعي الرهبة أو القناعة، ففي الحالتين فإن العهد الجديد يُفترض أن يزيل الرهبة من النفوس، وأن يحترم قناعات الناس ومعتقداتهم أياً كانت ما دامت لا تُعكّر السلم الأهلي ولا تقترن بالعنف أو تحرض عليه . . لا أن يؤخذ هؤلاء وتعدادهم هائل العدد، بجريرة عشرات وحتى مئات من متنفذين متغولين .
غاية القول هنا إن معيار العدالة، والنأي عن أي شكل من أشكال الانتقام الشخصي أو الموجّه لأشخاص، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، والحرص على تفادي أخطاء الأنظمة السابقة في الإقصاء أو المحاباة، واحترام السلم الأهلي وعدم التسبب بتوترات اجتماعية، وكذلك حماية المعتقد السياسي (حتى لو كان صاحب المعتقد يؤمن بصلاحية نظام سابق) . . هذه جميعاً مقاييس تستحق الوفاء بها أو الاهتداء بها على الأقل، في مقاربة موضوع العز، علماً بأن استخدام تعابير مثل المساءلة السياسية من قبل الشعب، والمحاسبة القضائية من طرف أجهزة العدالة، هو أقرب للتعبير عن الغاية الفضلى المنشودة في تصويب المسار، وتدارك ما فات، وانصاف الضحايا، وفتح عهد جديد من المشاركة الواسعة .

محمود الريماوي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"