المدارس المصرية.. تراث وتقاليد

05:10 صباحا
قراءة 6 دقائق

سمعت أن الأستاذ عباس محمود العقاد في صالونه التفت إلى أحد الحاضرين عندما ذكر ذلك الشخص اسمه وقال له هل كان أبوك مهندساً في الري؟ فاندهش ذلك الشخص وقال له صحيح يا أستاذنا ولكن كيف عرفت ذلك؟ فقال له إن اسمك الأول يشير إلى منطقة قرب بحر الغزال. فقد استطاع ذلك المفكر الكبير بموسوعيته الهائلة أن يكتشف انتماء من كان يتحدث معه إلى مدرسة الري المصرية. وأنا أسوق هذه القصة لكي أقول إن مصر بلد كبير وقديم عرف التقاليد المهنية والأعراف الحرفية قبل غيره من دول المنطقة، ولدينا في ذلك مدارس مختلفة، فمن مدرسة القضاء المصري إلى المدرسة العسكرية إلى المدرسة الدبلوماسية إلى مدرسة الري وأيضاً مدرسة السكة الحديد وغيرها، مما عرفه المصريون في تاريخهم الحديث وتسبق ذلك كله المدرسة الدينية متمثلة في الأزهر الشريف والكنيسة القبطية وما تركوه جميعاً من بصمات قوية على الشخصية المصرية. أعود الآن إلى الحديث عن بعض تلك المدارس العريقة حتى نخرج قليلاً من ضجيج الصراع العربي- الإسرائيلي وملل الحوار الفلسطيني -الفلسطيني وقلق العراق وأحزان دارفور، ونستعيد بعضاً من ماضينا المجيد حتى نتخلص من مناخ الإحباط الذي وضعنا أنفسنا فيه، وندرك أننا لسنا فقط دولة مؤسسات، ولكننا قبل ذلك دولة تقاليد وأعراف قد يكون بعضها قد توارى كما اختفى البعض الآخر وتراجع البعض الثالث، ولكن تظل قيمة مصر متمركزة في هذه الرموز منذ أخذ سليم الأول الفاتح العثماني مئات من خيرة الحرفيين المصريين وأرسل بهم إلى الأستانة ليكونوا نواة لإقامة الصناعات الدقيقة وتشييد المباني الرائعة في مستهل التاريخ العثماني، وعلى الرغم من محاولات التشكيك في هذه الواقعة إلا أنني سمعت من بعض ثقاة الأتراك أن ذلك الأمر قد حدث بالفعل، وأن نسبة كبيرة من هؤلاء كانوا من أقباط مصر أصحاب الحرف القديمة، وأن السلطنة العثمانية أعادتهم إلى مصر بعد جيل واحد أو اثنين من وصولهم. وعندما نتذكر مدرسة الطب المصرية بدءاً من كلوت بك مروراً بعلي باشا إبراهيم ونجيب باشا محفوظ وعبد الوهاب باشا مورو، وصولاً إلى جيل إبراهيم بدران ومجدي يعقوب وغيرهم من أساطين الطب والجراحة، فإننا ندرك أن لدينا أعرق مدرسة طب في المنطقة، وأنا أعني بالمناسبة بكلمة المدرسة ,A school of thought أي مجموعة التقاليد الفكرية التي حكمت تلك المؤسسة التاريخية وجعلت لها رؤية ذاتية وضعتها على خريطة الوطن لكي تبقى وتستمر علامات مضيئة تنير لنا الطريق الذي نكاد ننحرف عنه. وإذا عدنا إلى مدرسة الري المصرية فإننا نتذكر مفردات معينة، فمهندسو الري القدامى كانوا يعرفون استراحات الري على امتداد مجرى النيل في السودان ومصر، ويعرفون السدود والقناطر والتعلية الأولى والثانية لخزان أسوان كما عاشوا تجربة السد العالي وتمرسوا من خلال الفيضانات السنوية قبل بناء السد وتجولوا في أنحاء البلاد، وظهرت أسماء لوزراء الأشغال العمومية والري والموارد المائية نذكر منهم عثمان محرم باشا وأحمد عبده الشرباصي وعبد الخالق الشناوي وسماحة وراضي الأول والثاني وأبو زيد وغيرهم من تلك الكوكبة، التي عاشت مع مياه النيل وعشقت النهر من المنبع إلى المصب وظلت لها تقاليدها المرعية وأعرافها الموروثة التي أرجو لها ألا تندثر أبداً في زحام التغييرات والإجراءات والقرارات. أما مدرسة السكة الحديدية فقد بدأت مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر عندما بدأ خط السكة الحديد بين القاهرة والإسكندرية ليكون بذلك ثاني خط سكة حديد في العالم كله، حيث استطاع عمال الدريسة المصريون أن يشكلوا مع مهندسيهم أجانب ومصريين مدرسة مهنية وحرفية لها تاريخ مصري مشهود حتى أصبحت ورش السكة الحديدية تعبيراً عن الدأب المصري والتواصل الفرعوني، وقس على هذا عشرات النماذج والأمثلة لمدارس مصرية لا يزال بعضها مزدهراً بينما يعاني البعض الآخر اختناقات وضغوطاً دفعت بالفساد لينخر في هيكلها كالسوس المدمر، ونحن نطالب هنا بضرورة حماية مدارسنا الفكرية والمهنية والحرفية من عوامل التخريب وعبث من لا يدركون أهمية ذلك في تكوين الدولة المصرية وتقنين إطارها التاريخي وتنظير هيكلها الوطني، وأسمح لنفسي هنا بأن أبدى بعض الملاحظات:

أولاً: إنني ممن يؤمنون بأن الشكل جزء من المضمون والذين يتحدثون أحياناً باستخفاف عن بعض الأمور الشكلية هم واهمون فروب المحاماة وارتداؤه مسألة تتصل باحترام المهنة وهيبة القضاء الواقف أمام شموخ القضاء الجالس، كذلك فإن الروب الجامعي خصوصاً في بعض الكليات النظرية وفي مقدمتها كليات الحقوق إلى جانب بعض المناسبات العلمية وأهمها مناقشة الرسائل العليا، هي أمور واجبة تعطي للجامعة مكانتها وتؤكد استمرارية دورها وترفع درجة المصداقية فيها.

ثانياً: لماذا نذهب بعيداً؟ فالمؤسسة العسكرية خير شاهد على ما نقول، فالجيش المصري الذي نعتز به دائماً وسوف نظل دوماً قد نشأ من مجموعة تقاليد راسخة لا يخرج عنها شأن الجيوش الكبرى في العالم، فقواعد الأقدمية والانضباط والتدريب واحترام المسائل الشكلية والجوهرية معاً قد جعلت منه مؤسسة متماسكة لا تتأثر بتراجع المجتمع أحياناً، أو بالتدهور في بعض جوانب الحياة العامة أحياناً أخرى، لأنه جيش ورث تقاليده عبر ممارسات إقليمية مشهودة وحارب منذ العصر الفرعوني حتى الآن مروراً بحطين وعين جالوت وحرب القرم والمكسيك وصولاً إلى نصر أكتوبر العظيم، وجيش له هذه التقاليد إنما يشير إلى مدرسة عسكرية مصرية تأثرت بها المنطقة في الحرب والسلم على السواء.

ثالثاً: إن القيمة الحقيقية للدور التنويري في مصر إنما تكمن في سياق هذه السطور، وما نشير إليه من أمور قد لا تبدو لافتة لأصحاب النظرة السطحية المتعجلة ولكنها تبدو ذات أهمية كبرى أمام من يدرسون الشخصية المصرية وينقبون في عناصر الإشعاع الصادرة عن الكنانة إلى المنطقة العربية والإفريقية، بل إن الدولة المصرية الحديثة التي صحت على مدافع نابليون في نهاية القرن الثامن عشر لكي تخرج من عباءة الفكر المملوكي ثم يتجه بها محمد علي للتمرد على سطوة الحكم العثماني، إن مصر التي نتحدث عنها قد وضعت تاريخياً اللبنات الأساسية في تكوين الدولة العصرية النموذج في غرب آسيا وشمال إفريقيا ودول حوض النيل، ونشرت جناحيها في العالمين العربي والإسلامي على نحو لا تزال آثاره باقية في عواصم دول كثيرة نشعر فيها بعمليات النقل التاريخي من التجربة المصرية.

رابعاً: إن التعليم المصري الذي ارتبط بمصر الحديثة بدءاً من رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك مروراً بدانلوب وسعد زغلول وأحمد نجيب الهلالي وطه حسين وإسماعيل القباني وغيرهم من أصحاب الرؤى، ذات الإسهام الفعال في مسيرة التعليم المصري الذي أضاء المنطقة كلها، ومازلنا نعيش حتى الآن على بقايا رصيده في عدد من الدول العربية والإفريقية حيث أجيال من رجالاتها المخضرمين يستعد معظهم للرحيل عن عالمنا بمنطق العمر بعد تأثيرهم المشهود في سياسات دولهم مع تواصل وارتباط دائمين بالوطن الثاني مصر الذي درسوا فيه وتعلموا في مدارسه وجامعاته.

خامساً: إن الأحزاب السياسية والنقابات المهنية والاتحادات العمالية والجمعيات الأهلية بدءاً من الجمعية الخيرية الإسلامية وجمعية التوفيق القبطية منذ بداية الربع الأخير من القرن التاسع عشر، هي كلها رموز وأدوات لدور مصري فاعل شد المنطقة إليه وأعطى للدور المصري مكوناته التي تحدث عنها مؤرخ الجغرافيا الراحل العظيم جمال حمدان، وهي التي صنعت في مجملها مفهوم الدولة النموذج وبلورت دور الشقيقة الكبرى.

هذه نقاط سريعة في موضوع حيوي يبدد ظلام الإحباط الذي يحاول أن يجتاح جوهر الشعب المصري وأن ينال من ثقته بذاته، ونحن أمام لحظة فارقة في تاريخه الحديث وفي ظل مناخ إقليمي خانق وبيئة دولية مزدوجة المعايير، حيث يبقى علينا أن ننقب في تاريخنا وأن نبحث في تراثنا وأن نعترف بأن مصر الحديثة قد امتلكت كل أدوات التغيير والتطوير، بل إن الأسرة العلوية تحتاج منا إلى تقييم موضوعي يقدم عباس حليم كرائد للحركة العمالية وعمر طوسون كرمز في الحركة الوطنية ويوسف كمال كعاشق للفنون الجميلة، كما أن جامعة القاهرة والمتاحف الكبرى والجمعيات الملكية والمؤسسات الباقية هي إسهامات مصرية في ظل حكم تلك الأسرة، بدءاً من المؤسس الكبير محمد علي مروراً بالمتحضر المفترى عليه إسماعيل باشا وصولاً إلى الملك فاروق ذاته الذي كان وطنياً مصرياً رغم أنه كان فاسداً شخصياً. إنني باختصار أريد أن أوقظ في أعماقنا جذوة لا تخبو وشعلة لا تنطفئ، لأن لدينا مدارس مصرية مستمرة ذات تراث وتقاليد باقية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"