المذهبية ضد وحدة الدين والوطن

03:15 صباحا
قراءة 4 دقائق
عبد الإله بلقزيز

ما السبيل إلى سياسة فعّالة للقضاء على التعصّب الدينيّ والمذهبيّ ومحْوه؟ أو، إنْ تَعَذّر ذلك، ما السبيل إلى الحدّ من آثاره المؤذية على المجتمع والناس؟ هل يكفي الرّدعُ القانونيّ - من قبيل إحداث تشريعات خاصّة بمعاقبة مَن يترجمون تعصّبهم الفكريّ إلى أفعال- لاحتواء الظاهرة ومغالبتها، أم إنّ مشكلة التعصّب ثقافيةٌ، في المقام الأوّل، وتحتاج بالتالي إلى ردٍّ ثقافي - تربويّ- تعليميّ؟
أسئلةٌ مشروعة من غير شكّ؛ ومَأْتى مشروعيّتها من أنّ سيْل التعصب المذهبيّ تَدَفّق في البلاد العربيّة والإسلاميّة، في العقود الثلاثة الأخيرة، حتى كاد أن يجرف تيّارهُ الاستقرار والسِّلم المدنيّ فيها. وموْطِن الإعضال، هنا، أنّ التعصّب لم يعُد محضَ منزِعٍ ثقافي يُعبَّر عنه بالقلم؛ بل زاد على ذلك بأنِ انتقلت تمظْهُراته من الكتابة والخُطب إلى التحريض العلنيّ- ومنه الإعلاميّ- فإلى التسخير في الميدان السياسيّ الذي اجْتِيحَ بقوى تستثمر الرأسمال الدينيّ في المنازعات الاجتماعيّة والسياسيّة على السلطة والثروة. وإذْ أدخلت قوى التعصُّب المذهبيّ قواعد وعلاقاتٍ وتقاليدَ جديدة - كما مفرداتٍ جديدة - إلى الميدان السياسيّ مجافيةً لطبيعته وغيرَ مألوفة، أفسدتِ السياسةَ وهَبَطت بمَقامها المدنيّ إلى دَرْكٍ أسفل، بالقدر عينِه الذي نفثتْ فيه روحَ الفُرقةِ والشِّقاق داخل الدين الواحد وبين أبنائه، مستنفرة فيهم منازع الانكفاء إلى «ملاذاتهم» المذهبيّة الفرعيّة على حساب رحابة الانتماء إلى الدين الواحد، دافعة إيّاهم إلى التراشُق بالتّهم وأحياناً، إلى المواجهات المفتوحة. وغالباً ما كان المصيرُ إلى هذه الحال من الاشتباك الماديّ والعنيف مسبوقاً بأفعال نكراء من القَتْل الرمزيّ، مثل فعل الاتّهام بالكُفر والمروق والخروج من الملّة؛ الذي يأتيه فريقٌ ضدّ آخر، ويسوِّغ به حربَه عليه.
عاينا، في البلاد العربيّة المعاصرة، وجوهاً متعدّدة ومتباينة من تفجُّر تظاهرات هذا التعصُّب الدينيّ والمذهبيّ، ومن تفجيرها أوضاع الجماعات الوطنيّة والجماعة الدينيّة، وإغراقها في أتون صراعات ضارية لا تنتهي، هنا، حتى تبدأ هناك من جديد. عاينا وجهاً دينيّاً - سياسيّاً - منها في حرب لبنان الأهليّة (1975-1990)، انقسم اللبنانيّون فيها على حدود انتماءاتهم الدينيّة (مسيحيّون، مسلمون)، وعلى حدود طوائفهم (موارنة، سنة، دروز، شيعة...)، قبل أن يحاول «اتفاقُ الطائف» تعديل قسمة الاحتصاص الطائفيّ (أو المحاصصة الطائفيّة) في النظام السياسيّ؛ وشهدنا على تجدُّدها في العراق، بعد غزوه في العام 2003، وتفجير الاحتلال الأمريكيّ-البريطانيّ بنيتَه الاجتماعيّة الوطنيّة، والعودة بها إلى فضاءٍ أنثروپولوجي زاخر بالعصبيّات والمذهبيّات، فكان من ذلك أن تَواجَه العراقيّون على حدود مذاهبهم (شيعة، سنّة)، مطوِّحين بالجوامع والمشتَركات: الوطنيّة والدينيّة، باحثين لحروبهم عمّن يزوِّدها - بعد الاحتلال - من قوى أخرى من خارج العراق؛ وكدنا أن نشهد مشهداً نظيراً في لبنان - بعد العام 2005- لولا أنّ إرادة الاستدراك ألجمَت مساراً كان قد شَرَع في الانطلاق فغالبتْهُ؛ ثم عاينا وجوهاً من فداحات ذلك التعصُّب المذهبيّ في سوريّا، منذ هبوب ما يسمى «الربيع العربيّ» عليها، فرأينا الذبحَ على الهويّة، وتحريضَ أبناء المذهب على أبناء المذهب الآخر؛ وأخيراً ما لبثنا أن شهدنا على انتقالةٍ مفاجئة ودراماتيكيّة لهذا التعصُّب من تعصُّبٍ مذهبيّ إلى تعصُّبات داخل المذهب الواحد، وكانت المواجهات العسكريّة والإفناء المتبادل بين «داعش» و«جبهة النصرة» و«جيش الإسلام» و«كتائب نور الدين الزنكي» وغيرها من الترجمات الماديّة لذلك الطور الأخير والخطر من التعصب... وما خفي أعظم.
المذهبيّةُ اليوم هي، إذن، أخطر أنواع التعصّب التي تعصف بوحدة الاجتماع العربيّ؛ بوحدة الوطن ووحدة الدين على السواء؛ بل لعلّها كذلك كانت في مجمل تاريخنا الإسلاميّ كما في مجمل تاريخ المجتمعات المسيحيّة. وهي الدرجة العليا في التعصُّب؛ لأنّها نزّاعةٌ إلى نفي الآخر ومفاصلته. يمكن للتعصُّب الفكريّ لدى الفرد أن يقود صاحبه إلى الدوغمائيّة والتكلّس والانغلاق على أيّ حقيقةٍ أخرى غير الحقائق الإيمانيّة اليقينيّة الراسخة لديه؛ ويمكن لمن يتعصّبون للغتهم ألا يصابوا بأكثر من جهْل لغات غيرهم، فيُفْقِرون أنفسهم من وسائل أخرى للاتصال بثقافات غيرهم؛ ويمكن حتى للمتعصّبين لدينهم أن لا يصيبهم من تعصُّبهم أكثر من الحكم سلباً على أديانٍ أخرى، أو الجهل بها والإمساك عن حوار مخالفيهم في الملّة؛ كما يمكن للتعصّب الوطنيّ والقوميّ ألا يؤدّيَ بأهله إلى أكثر من الشعور بالنرجسيّة القوميّة والانغلاق في الشعور هذا. يمكن لكلِّ هذا أن يحصل في الحالات التي يجنح فيها التعصُّب للغُلُوّ والتطرُّف. غير أنّ التعصُّب المذهبيّ مختلفَ المحتِدِ عن هذه المَحَاتِدِ جميعاً؛ فهو فرْعيٌّ وشديدُ الانغلاق: فرعيٌّ إن قيسَ بجمْعيٍّ أو جماعيّ أرحب وجامع (مثل التعصب للدين، أو اللغة، أو الثقافة، أو الأمّة، أو الوطن)؛ وشديدُ الانغلاق .
من الواضح، إذن، أنّ مواجهة مثل هذا التعصّب المذهبيّ لا تكفيها تشريعات و«فَرَمانات»؛ لأنّه عميق الجذور في الذاكرة التاريخيّة وفي الذهنيّة العامّة. والظواهر التي من هذا الجنس لا يمكن مغالبتُها والتصدّي لها إلاّ ببرنامج عملٍ ثقافيّ تنويريّ طويل الأمد، مَبْناهُ على نشر قِيَم الاجتهاد والنسبيّة في التفكير وثقافة التسامح على النحو الذي تصبح فيه الثقافةُ هذه، تدريجاً، ثقافةً جمعيّة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"