المظلومية في الخطاب السياسي العربي

02:37 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

إن تاريخ الترويج للمظلومية ولعب دور الضحية في الخطاب السياسي العربي المعاصر يشبه في الكثير من تفاصيله ما فعلته الأقليات اليهودية في الدول الغربية خلال القرن الماضي من ترويج لصورة الضحية الأبدية، مع العمل على ابتزاز النخب الحاكمة للحصول على تنازلات سياسية، وترسيخ النفوذ المالي والإعلامي للجاليات اليهودية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. والشيء نفسه تمارسه الآن أطراف عربية اعتماداً على الخطاب الديني والعرقي والمناطقي من أجل الحصول على مكاسب سياسية، فقد عانت الدولة العربية المعاصرة منذ تأسيسها في النصف الأول من القرن الماضي، من ممارسات أطراف معادية لوحدتها واستقرارها أرادت أن تقوِّض مشروع الدولة في الوطن العربي خدمة لمخططات أجنبية.
وعليه فقد أنتجت نخب المظلومية العربية بلاغة بكائية بهدف الحصول على تعاطف وتضامن فئات اجتماعية واسعة بناءً على مبررات تطمس الواقع وتشوِّه الحقيقة وتقلب الأحدث رأساً على عقب، ويبدو ذلك جلياً من خلال مقارنة روايات هذه النخب بالمعطيات الموثقة التي تصدرها مؤسسات الدولة الوطنية. سنحاول أن نبرز في هذه العجالة بعض عناصر خطاب المظلومية في المشهد السياسي العربي الراهن من خلال التركيز على صورة الضحية كما ترسمها أطراف متعددة في مقدمتها جماعات الإسلام السياسي والأقليات الدينية والعرقية في عدد من الدول العربية، وهي صورة أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها كاريكاتورية وبعيدة كل البعد عن حقيقة ما يجري على أرض الواقع.
وإذا كانت جذور خطاب المظلومية قديمة تعود بنا القهقرى إلى بداية تأسيس حركة الإخوان المسلمين في مصر سنة 1928 لأسباب تاريخية معروفة، فإننا لا نطمح هنا إلا إلى مقاربة بعض التحولات التي وقعت في دول عربية بعينها خلال العقدين الأخيرين، وتحديداً منذ انطلاق ما سمي ب «الربيع العربي»، وسنركز في هذا السياق على 3 تجارب تتعلق بما حدث في العراق منذ الغزو الأمريكي سنة 2003، وما حدث في مصر بعد سقوط نظام مبارك، وما يحدث الآن في الجزائر، لنبرز بعض السمات المشتركة للبكائيات السياسية في الوطن العربي.
بالنسبة للحالة العراقية يذكر معظم المراقبين أن الأمريكيين لم يعتمدوا فقط في الترويج لأسباب غزوهم لعاصمة الرشيد على المبررات الوهمية المتصلة بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، بل برّروا استباحة سيادة الدولة العراقية وتدمير مؤسساتها، بادعاء حماية الأكراد من «بطش» السلطة المركزية في بغداد، وتحرير أتباع الطوائف الدينية من هيمنة وتسلط حزب البعث. وقد دفع خطاب المظلومية في العراق بعض النخب الدينية والعرقية التي لا تمثل حقيقة الشعب العراقي الأصيل، إلى التعامل بشكل إيجابي مع الجيش الأمريكي، وتقديم يد المساعدة له لإسقاط نظام الرئيس صدام حسين، كما كاد خطاب المظلومية الكردي يقود سنة 2017 إلى استقلال إقليم كردستان، لولا التدخل الحاسم للسلطة المركزية في بغداد من أجل وقف هذه المغامرة السياسية التي كانت تهدف إلى تفتيت وحدة الدولة العراقية.
ويبدو، في السياق نفسه، خطاب المظلومية في مصر أشد وضوحاً وأكثر قدرة على إثارة الصخب الإعلامي والتهويل السياسي، نظراً للدعم الذي يحصل عليه هذا الخطاب من قبل بعض الأطراف الإقليمية المدافعة عن مشروع الإسلام السياسي في الوطن العربي. ولذلك فإنه وبصرف النظر عن بعض دعاوى المظلومية التي تروّج لها بعض الأقليات القبطية المتواجدة في المهجر، بشأن ما يقال إنه تضييق على الحقوق الدينية للأقباط، فإن التهديد الأكبر لسيادة الدولة القومية في مصر يأتي من التنظيم العالمي للإخوان، الذي يريد أن يطمس معالم الحراك الشعبي الذي قادته الجماهير المصرية يوم ال 30 من يونيو/ حزيران 2013 من أجل إسقاط حكم الإخوان؛ ويعمل في مقابل ذلك على تقديم نفسه كضحية لهذه الثورة التي يصفونها بالانقلاب العسكري الذي عمل حسب زعمهم على استخدام «القوة المفرطة» من أجل فض اعتصامهم بميدان رابعة، ولم يذكر «الإخوان» لا من قريب ولا من بعيد التجاوزات والعنف الذي مارسوه على المواطنين المصريين الأبرياء أثناء اعتصامهم، كما تعمدوا السكوت عن كل التجاوزات التي ارتكبوها أثناء ممارستهم للسلطة.
أما بالنسبة للجزائر، فإن خطاب المظلومية الأبرز والذي يتجاوز في تأثيره على المستوى المحلي، خطاب مظلومية التيار الديني الذي تتبناه جبهة الإنقاذ المحظورة، فيرتبط بالمنظومة الإعلامية القوية للتيار الفرانكوبربري المدعوم من طرف باريس، الذي يدّعي أن سكان بعض المناطق الأمازيغية في الجزائر يعانون من التهميش والتضييق على هويتهم، على الرغم من أن الأغلبية الساحقة من الجزائريين تعلم جيداً أن النخب المسيطرة على قطاعات المال والأعمال والتجارة والخدمات والثقافة والإدارات المركزية للدولة، وعلى النقابات المهنية وعلى العديد من الأحزاب السياسية، ينحدرون من المنطقة الأمازيغية نفسها.
ويمكن أن نخلص في الأخير إلى أن هذه الخطابات ينطبق عليها إلى حد بعيد مقولة المثل العربي الشائع: «ضربني وبكى وسبقني واشتكى»، وستظل تمثل التهديد الأكبر للاستقرار في المنطقة العربية، وورقة سياسية قابلة للتوظيف من قبل القوى الإقليمية،والدولية من أجل التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"