أولاً: إن أشد ما كان يؤرقني هو ذلك الشعور الحزين الذي انتابني وأنا أرى حالة الخلط المتعمد بين المصالح العليا للوطن التي يجب أن تكون نقطة التقاء بين الجميع، وبين بعض أساليب المعارضة لنظام الحكم في مصر، والتي هي حق مشروع للجميع أيضاً. وأنا هنا أطلب تفسيراً واحداً لتبرير ما يقوم به بعض من يحملون شرف الانتماء لمصر وتحريضهم المغلوط للأشقاء الأقباط ثم البهائيين وأيضاً النوبيين وحتى بدو سيناء، واستغلال معاناتهم جميعاً لإحداث وقيعة تؤدي في النهاية الى السعي نحو الاستقواء بالأجنبي والخروج عن إطار المصلحة العليا للوطن، وقد يتجاوز الأمر ذلك الى التحريض على مصر في قضيتي المعونة الأمريكية بل وتوزيع مياه النيل أيضاً. وأنا بالمناسبة لا أزعم أن الصورة وردية في بلادنا أو أنه لا توجد خروقات وتجاوزات وانحرافات، كما أنني أعترف بوجود مشكلات مزمنة لشرائح من نسيج الوطن الواحد وأدافع عنها وأطالب بتحقيق ما هو عادل من مطالبها، ولكن عندما أكتشف أن بلادي مستهدفة في و حدتها الوطنية وصورتها الدولية فإنني أشعر بالخطر الحقيقي الذي يسعى لاغتيال الروح المصرية التي عرفها التاريخ.
ثانياً: إن حوار الكنيسة في واشنطن أثبت لي أن الأغلب الأعم من أقباط مصر في الخارج يعيشون هموم الوطن ومعاناة أبنائه، وقد ينفعلون أحياناً باتصالات من الأهل أو معلومات من الأقارب وهي لا تخلو غالباً من تهويل ومبالغة، رغم اعترافنا بأن الشأن القبطي يحتاج الى معالجة غير تقليدية فيها شجاعة القرار وعصرية الموقف والتعامل مع كل المفردات الحديثة، خصوصاً ما يتصل منها بمسائل حقوق الإنسان وحرية العقيدة وممارسة شعائرها الى جانب احترام تكافؤ الفرص وسيادة القانون والالتزام بمبدأ المواطنة الذي نصت عليه المادة الأولى من دستور البلاد.
ثالثاً: إن هناك عناصر مصرية نشطة تقيم في الخارج وتسعى لإبلاغ أعضاء الكونجرس بتفاصيل يومية حول ما يجري في مصر من أحداث وما يتردد من شائعات فتبدو الصورة أمامهم قاتمة ومضطربة على نحو لا يسمح بالتحليل المجرد أو الدراسة الموضوعية. وأنا بهذه المناسبة لا أنكر مرة أخرى أن لدينا مشكلات نجمت عن الاشتباك بين الدين والسياسة فولّدت التطرفة، وأخرى انطلقت من التداخل بين الثروة والسلطة فأفرخت الفساد، ولكن ذلك كله لا ينهض مبرراً للمساس بوحدة الوطن وسلامة أراضيه، كما أنني لا أتصور أن يتغلب عداء البعض لنظام الحكم القائم على درجة حرصهم على الوطن الباقي.
رابعاً: لقد شعرت بالاعتزاز والسيدة نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكي تقول لي إنها هي التي قدرت المسافة بين وسط القاهرة وأهرام الجيزة باعتبارها لا تزيد على ثلاثين دقيقة، وذلك عندما تحدث أمامها الرئيس أوباما عن حلمه في زيارة الأهرامات أثناء زيارته للقاهرة وإلقاء خطابه الشهير من فوق منبر جامعتها العريقة، وشعرت بارتياح أيضاً عندما قال لي وزير خارجية العراق إن الدور المصري قد حصد في الشهور الأخيرة نقاطاً لمصلحته بدءاً من زيارة الرئيس الأمريكي للقاهرة مروراً باستقرار الوضع في لبنان، وصولاً الى ما جرى في الانتخابات الإيرانية وانتهاء بتحسن العلاقات المرتقب مع الشقيقة سوريا، وقد توقع الوزير العراقي أن يكون النهج الإيراني في المرحلة المقبلة أكثر تشدداً كردّ فعل للأحداث الداخلية الأخيرة والاستخدام الإعلامي الغربي لها.
خامساً: إن المزاج العام في العاصمة الأمريكية مختلف عنه أثناء زيارتي في العام الماضي. فالاستقبال أكثر حفاوة والتوتر أقل حدة والتفاؤل يسود بعض الدوائر المعنية بالقرار السياسي الأمريكي في الشرق الأوسط، وإن كانت هناك همسات تتردد بأن شهر العسل السياسي الذي استمتع به الرئيس باراك أوباما قد قارب على الانتهاء، فالبعض يعيب عليه كثرة أحاديثه وتعهده أحياناً بالتزامات ترفع سقف التوقعات من إدارته، بينما قد لا تستطيع تلك الإدارة الوفاء بتلك الالتزامات ويضربون لذلك مثالين: أولهما التعهد المسبق بإغلاق معسكر جوانتانامو، وثانيهما خاص بالاعتراض الأمريكي على استمرار سياسة الاستيطان الإسرائيلية. ولقد عبرنا لهم صراحة كوفد برلماني مصري عن اعتراضنا على مبدأ يهودية الدولة العبرية، وقلنا لهم إن ذلك يجعل عرب 48 في إسرائيل مواطنين من الدرجة الثانية كما أنه يفتح باباً لميلاد دول دينية في الشرق الأوسط بصورة تمزق أوصال المنطقة وتهدد استقرارها.
هذه نظرة عامة على نتائج قصيرة لمسنا خلالها أن الساحة الأمريكية عطشى للمزيد من الجهود المصرية المخلصة في جميع المجالات، وليس في الدائرة السياسية وحدها، فالمفكرون والأدباء والفنانون والعلماء مطالبون بالتواصل مع هذه الساحة المهمة التي تتحكم بشكل كبير في مقدرات الحياة وتوازنات السياسة بل واستراتيجيات المستقبل في الشرق الأوسط. وعندما رأيت السيدة المصرية داليا مجاهد ابنة حي السيدة زينب، بحجابها الإسلامي الملتزم تصافح رئيسة مجلس النواب الأمريكي بود وحرارة أيقنت أن ذلك المجتمع الناضج قد خطا خطوات واسعة نحو إلغاء الفوارق بين الشعوب والديانات وألوان البشر، وتذكرت وقتها وطني الذي ما زال يتطلع الى يوم تشرق فيه شمس الحداثة وتطل منه الروح العصرية فتضيء عقل أبنائه جميعاً في صحوة شاملة من خلال رؤية كاملة نعالج بهما اختلافاتنا بينما أقدامنا ثابتة على أرض مصر، فالوطن فوق الجميع.