المغرب والانضمام إلى «الجنائية الدولية»

03:30 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. إدريس لكريني

شكّل إنشاء المحكمة الجنائية الدولية قبل عقدين من الزمن، حدثاً دولياً بارزاً، خلف الكثير من الارتياح في أوساط الكثير من الدول والمنظمات الحقوقية والرأي العام الدولي بشكل عام، بالنظر إلى حجم الجرائم التي ظلت قائمة وترتكب على امتداد مناطق مختلفة من العالم، وبخاصة بعد نهاية الحرب الباردة، وتفجّر الأوضاع السياسية والعسكرية داخل عدد من البلدان، في سياق الصراع الدامي على السلطة.
وانضمت الكثير من دول العالم إلى نظام روما المؤسس للمحكمة منذ إحداثها (124 دولة)، فيما امتنعت أو تحفظت دول أخرى على ذلك، بمبررات مختلفة تتّصل في أغلبيتها بالحرص على سيادتها، والحيلولة دون أي تدخل خارجي في شؤونها المختلفة.
وعلى الرغم من الملفات المهمة التي تابعتها المحكمة، والجهود المبذولة لإرساء عدالة جنائية تدعم منع الإفلات من العقاب، فإن الكثير من الإشكالات والصعوبات والمشاكل ما زالت ترافق أداء هذا الهيئة، وتحدّ من قدرتها على مواجهة ومتابعة المسؤولين عن ارتكاب عدد من الجرائم الخطرة التي تندرج ضمن اختصاصاتها بموجب الفصل الخامس من نظامها الأساسي (جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم إبادة الجنس البشري؛ والعدوان).
وباستثناء الأردن وتونس وجزر القمر وجيبوتي، ما زالت أغلبية الدول العربية لم تتحمّس للانضمام إلى معاهدة روما، لاعتبارات عدة تتباين في مجملها من دولة إلى أخرى.
في أجواء الحراك الذي شهدته المنطقة عام 2011، أصدر المغرب وثيقة دستورية خلال صيف العام نفسه، تضمنت مجموعة من المقتضيات التي سعت إلى تعزيز الحقوق والحريات في أبعادها المختلفة، وترسيخ سمو منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، كما تمّت «دسترة» مجموعة من التوصيات الصادرة عن هيئة الإنصاف والمصالحة على مستوى دعم استقلالية القضاء، وتجريم الاعتقال التعسفي أو السّري، والإبادة والتعذيب والمعاملات القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة أو الحاطّة بالكرامة الإنسانية.. كما تمت «دسترة» مجموعة من المؤسسات والمجالس المعنية بحقوق الإنسان، كما هو الشأن بالنسبة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان.
إضافة إلى تجريم عدد من الجرائم التي تندرج ضمن اختصاص المحكمة، مع التأكيد على المسؤولية الجنائية لأعضاء الحكومة عن الأفعال التي يرتكبونها أثناء ممارستهم لمهامهم، وربط الحصانة المخولة لأعضاء البرلمان بغرفتيه، بالآراء والمهام المتصلة بنشاطاتهم داخل هذه المؤسسة على مستوى سنّ السياسات العمومية، وصناعة التشريع، ومراقبة العمل الحكومي.. وهو ما اعتبره بعض المراقبين والمهتمين، مؤشراً على اقتراب المغرب من الانضمام إلى المحكمة، لكن وعلى الرغم من توقيعه على النظام الأساسي للمحكمة في ال 20 من سبتمبر / أيلول من عام 2000، لم يصادق المغرب على النظام الأساسي للمحكمة حتى الآن، ومع ذلك فقد ظلّ باستمرار يؤكد أهمية هذه الأخيرة، ودورها المهم في تعزيز السلم والأمن الدوليين، وفي ترسيخ احترام حقوق الإنسان. كما راكم مجموعة من المكتسبات الداعمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وهو ما يجسده مصادقته على مجموعة من المواثيق والمعاهدات الدولية ذات الصلة.
مواكبة لهذا الموضوع، نوقشت أخيراً أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام بكلية الحقوق (جامعة القاضي عياض) في مراكش، تقدم بها الباحث علي فاضلي في موضوع: المغرب والمحكمة الجنائية الدولية.. دراسة تحليلية على ضوء مستجدات دستور 2011.
أبرز الباحث أن المغرب قدّم دفوعات عدّة يبرّر بها عدم المصادقة، وهي مبررات لا تختلف في مضمونها كثيراً عن تلك التي تطرحها بقية الدول التي رفضت الانضمام إلى المحكمة، وبخاصة منها تلك المتصلة بتعارض النظام الأساسي مع الحصانة التي يقرها الدستور لرؤساء الدول، وتعارضه مع مبادئ السيادة القضائية الوطنية، ومع مقتضيات العفو.
وإضافة إلى المقتضيات الدستورية التي تطرح كمعيقات أمام تصديق المغرب على النظام الأساسي لروما، تطرح كذلك تحديات أخرى تتمحور في علاقاته الخارجية، وفي مقدمة ذلك علاقته بالولايات المتحدة، وبعدد من الدول العربية والدول الإفريقية.
ينطوي موضوع الأطروحة على قدر من الأهمية، لكونها ناقشت مختلف التحديات المتصلة بعلاقة المغرب بالمحكمة الجنائية الدولية، كما طرحت عدداً من الدفوعات التي تقدم بها المغرب في هذا الخصوص، مع استحضار بعض التجارب المقارنة وكيفية تعاطيها مع الإشكالات التي طرحها الانضمام. كما تتجلى أهمية الموضوع أيضاً في مقاربته في سياق عدة حقول معرفية، وفي مقدمتها القانون الدولي بفروعه المتعددة (القانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي الجنائي، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون القنصلي والدبلوماسي)، إضافة إلى حقل العلاقات الدولية وحقل القانون الدستوري والقانون الجنائي، وهو ما أعطى للموضوع أهمية وعمقاً.
إن المغرب أضحى مع المستجدات والمعطيات المذكورين سابقاً، أقرب من أي وقت مضى من المصادقة على النظام الأساسي للمحكمة، كما أنه لا يحتاج بالضرورة إلى إجراء تعديل دستوري قبل المصادقة على هذا النظام، خصوصاً أن المقتضيات الدستورية التي تثار في علاقة المغرب مع المحكمة، قد يصعب الاستغناء عنها في أي مراجعة دستورية، ولا سيما مسألتي السيادة الوطنية والحصانة.
وهنا يجب استحضار التجربة الأردنية في ارتباطها بالمحكمة، حيث صادق هذا البلد العربي على النظام الأساسي للمحكمة، على الرغم من المقتضيات الدستورية المتعلقة بمسائل السيادة والحصانة والعفو.
ما يشجع المغرب على المصادقة على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، هو التفكير في العوائد والفوائد المرجوة من ذلك على المستويين الداخلي والخارجي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"