النفط والتغيرات في السياسة الخارجية الأمريكية

05:00 صباحا
قراءة 4 دقائق

توقعت الوكالة الدولية للطاقة أن تغدو الولايات المتحدة الأمريكية المنتج الأول للبترول في العالم ابتداءً من العام 2015 فتزيح السعودية عن المركز الأول بعد أن أخذت مكان روسيا في المرتبة الثانية منذ عامين .
وتوقعات الوكالة مبنية على دراسات المعهد التابع لها . وهي تقول إن الإنتاج النفطي الأمريكي راح مؤخراً يسلك اتجاهاً تصاعدياً بعد المنحى التراجعي الذي سلكه بعد وصوله إلى القمة في العام 1970 . منذ هذا التاريخ أخذت الواردات النفطية الأمريكية تتزايد إلى أن تخطت الإنتاج الأمريكي في العام 1983 . ففي هذا العام استوردت الولايات المتحدة أكثر من نصف استهلاكها من الطاقة .
وما أعلنته وكالة الطاقة الدولية مؤخراً هو أن هذا الوضع انقلب رأساً على عقب . ففي الشهر المنصرم بالتحديد، أنتجت الولايات المتحدة من النفط أكثر مما استوردت، أي أنها أضحت دون العتبة الرمزية لنسبة الخمسين في المئة من التبعية للخارج . ومن المتوقع أن يستمر الاعتماد على الواردات بالتراجع في العقد المقبل بفضل استخراج الأنواع غير التقليدية من البترول لاسيما الصخري منه . وعلى هذا الإيقاع تبني الوكالة توقعها بأن تصبح الولايات المتحدة في رأس لائحة منتجي النفط في العالم مكان المملكة العربية السعودية . لكن ما لم تقله الوكالة هو أن السعودية لاتزال تملك هامشاً واسعاً، إذ إنها قادرة على زيادة إنتاجها، لتلبية الطلب الآسيوي المتزايد على النفط، على سبيل المثال .
النتائج المتوقعة لذلك ستكون مختلفة عما حصل في مجال الغاز الذي تبقى أسواقه إقليمية أكثر منها عالمية، بسبب قلة الأنابيب الناقلة له بين القارات، كما هي حال النفط الذي يجري تداوله في الأسواق على مستوى المعمورة ويجري نقله بأنابيب بين القارات والمحيطات . لذلك فعندما وصل إنتاج الولايات المتحدة من الغاز إلى مستويات عليا غير مسبوقة انخفض سعره في الولايات المتحدة والقارة الأمريكية عموماً من دون أن تتأثر الأسواق البعيدة بهذا الانخفاض . وفقاً لهذا المنطق يتوقع البعض أن ينخفض سعر البترول بسبب الزيادة في الإنتاج الأمريكي . لكن يؤكد الخبراء أن العرض لن يتخطى الطلب على المستوى العالمي وهذا الطلب مستمر في التصاعد، خصوصاً في آسيا، والنفط الجديد المكتشف يكاد لا يعوض الآبار القديمة التي نضبت، لذلك ينبغي عدم توقع انخفاض سعر الذهب الأسود . ثم إن الإنتاج الأمريكي مهما ارتفع فإنه بالكاد سيكفي للاستهلاك الداخلي، عدا أن الصناعات البترولية الأمريكية، بأنواعها، تستفيد من سعر مرتفع إلى حد ما للنفط شريطة أن لا يتخطى قدرة المواطن العادي على تحمله .
ويقول تقرير وكالة الطاقة الدولية المذكور إن الإنتاج النفطي الأمريكي سيبلغ ذروته في العام 2020 ليعود إلى التراجع تاركاً المركز العالمي الأول للعربية السعودية مجدداً، وبالتالي فإن هذه الفورة الأمريكية في إنتاج الطاقة ليست أكثر من مؤقتة، ولنصف عقد من الزمن ليس أكثر . وإذا ارتفع الاستهلاك الأمريكي من الطاقة في السنوات المقبلة فإن الاستيراد سيعود إلى الارتفاع بين العامين 2020 و2025 . لكن السياسة التي تتبعها واشنطن، منذ العام ،2006 الهادفة إلى التقليل من استهلاك النفط تؤتي ثمارها إلى اليوم وتنجح في تحقيق أهدافها، وما من سبب للعودة إلى الوراء، لاسيما أن الأمريكيين لطالما برهنوا عن قدرات تكنولوجية تجديدية وثورية في مجالات كثيرة .
هل يمكن قراءة التحولات السياسية الأمريكية من هذه الزاوية النفطية؟ في الحقيقة لطالما احتل النفط الموقع المركزي في سياسات واشنطن الشرق-أوسطية، ولطالما بالغ المحللون في النظر إلى هذه السياسات من زاوية نفطية فحسب . ففي ستينات القرن المنصرم كان الإنتاج الأمريكي من الطاقة في ذروته، كذلك الاهتمام بالشرق الأوسط والانخراط في أزماته . وعندما تراجع هذا الإنتاج بقيت السياسات نفسها كما الانحياز ل"إسرائيل" على الرغم من تراجع أهميتها الاستراتيجية، أمريكياً، بعد انتهاء الحرب الباردة والانتشار العسكري الأمريكي المباشر في المنطقة . النفط و"إسرائيل" ركيزتا الاستراتيجية الأمريكية بمعزل عمن يسكن البيت الأبيض، هذه معادلة بقيت قائمة رغم تحول النظام الدولي والتبدلات التي طرأت على النظام الإقليمي العربي وعلى كل العلاقات الدولية في العقود الثلاثة المنصرمة . لقد انتهى تأثير منظمة "أوبيك" وصار السوق عالمياً متعولماً، وأضحت الشركات من دون جنسية أو بجنسيات متعددة، وصار الأعداء شركاء في التجارة، من دون قصدهم في بعض الأحيان، والحلفاء خصوماً أو متنافسين فيها . وإذا صودف أن قررت واشنطن زيادة تركيزها على منطقة صاعدة (آسيا-الباسيفيك) ولو على حساب منطقة لاقت فيها هزائم وإخفاقات، فليس من الضرورة أن يكون النفط هو العامل الحاسم في قرار كهذا .
ثم إن واشنطن، وإن شعرت بالاكتفاء النفطي، فمصلحة حلفائها تبقى من دوافع سياساتها الخارجية إن هي أرادت أن تبقى قوة عظمى . والشرق الأوسط، سواء خف الاعتماد الأمريكي على نفطه أو تزايد، يبقى من كل النواحي الاستراتيجية، قطعة الأرض الأغلى في العالم، على ما قال أحد رؤساء الولايات المتحدة ذات مرة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"