النيل يجري ولا يتوقف أبداً

05:19 صباحا
قراءة 5 دقائق

مازلت أتذكر عندما كنت في صحبة الرئيس محمد حسني مبارك إلى القمة الإسلامية في الكويت عام 1987 إيذاناً بعودة الكنانة إلى مستقرها الإسلامي في أحضان منظمته، يومها وقف أمير الكويت الراحل وألقى خطاب ترحيب بمصر ورئيسها، أتذكر أنه قال في مقدمته، بالنص تقريباً جعل الله عطاء مصر كنيلها الخالد موصولاً لا مقطوعاً أبداً، وعندما أعجبتني تلك العبارة الاستهلالية من الأمير الراحل بدأت أفكر فيمن شاركوا في صياغة ذلك الخطاب التاريخي الرائع، وعلمت أن الدكتور عبد العزيز كامل القطب الإخواني والوزير الأسبق وأستاذ الجغرافيا الشهير هو صائغ هذه العبارة الرائعة التي نزلت علينا يومها في تلك العاصمة الشقيقة بردًا وسلامًا، منذ ذلك اليوم وتلك العبارة لا تفارق ذهني، خصوصاً ذلك الربط الحضاري والإنساني بين عطاء أم الدنيا لقارتها الإفريقية وأمتها الإسلامية ووطنها العربي في جانب، وبين جريان نيلها مخترقاً صعيدها العظيم حتى تفتح الدلتا ذراعيها ترحيباً بحضارات الدنيا وثقافات العالم، وإذا كان هيرودوت قد قال إن مصر هبة النيل فإنني أضيف إلى عبارته كما أن مصر أيضاً هي حامية ذلك النهر .

ولقد قصدت من هذه المقدمة الإنسانية أن أضع القارئ في الأجواء النفسية والبيئة الثقافية لما نطلق عليه حالياً ملف الأزمة بين دول حوض النيل، وأستأذن القارئ مباشرة في طرح الملاحظات الآتية:

أولاً: إن النيل بالنسبة لمصر ليس مجرد نهر يجري أو مياه تتدفق، ولكنه تراث ثقافي ضخم وتراكم حضاري كبير ومنظومة من التقاليد والقيم والأفكار والعادات، إنني أتذكر أن جدتي أم أبي كانت عندما تريد أن تحدد ضخامة شيء ما تقول إنه مثل الدنيا التي يرويها النيل فقد كان عالم هذه السيدة الريفية البسيطة مرتبطًا بمجرى النهر ودول الحوض، وكأن خريطة الدنيا لم تتسع لغيره . إن عيد وفاء النيل ومقياس النيل وفيضان النيل وعروس النيل بل وتحويل مجرى نهر النيل كلها عبارات رمزية لشيء ارتبطت به الأرض المصرية منذ فجر التاريخ ومازلت أتذكر تربة القرية في شهر أغسطس/آب من كل عام عندما تبدو مبللة بطميٍ بني اللون يشير إلى زمن الفيضان السنوي الذي كنَّا نعرفه قبل بناء السد العالي، فارتبط النيل في أذهاننا ببيئة معينة ومناخ محدد ومظاهر للحياة جعلت من الفيضان توقيتاً سنوياً يشير إلى تجدد الروح أو الميلاد الجديد، فحتى مأكولات وقت الفيضان بأسماكه النيلية المعروفة خصوصاً عند ملتقى النهر بالبحر الأبيض كانت كلها جزءاً مهماً من التكوين النفسي لطفولة الأجيال المصرية المتعاقبة .

* ثانياً: إن التقويم المصري القديم الذي يتطابق إلى حد كبير مع الشهور القبطية حالياً قد ارتبط هو الآخر بجريان النهر ومنسوب مياهه، فأجندة الفلاح المصري ويوميات الزراعة منذ العصور السحيقة مرتبطة هي الأخرى بمواقيت النهر وحساباته وكرمه وسخائه أو شحه وجفافه، والتاريخ يذكر أن السنوات العجاف في التاريخ المصري كله قد ارتبطت بانخفاض منسوب النيل وقلة الوارد من مياهه، كما كان موسم بذر الحبوب وحصاد الزرع وانتعاش الحياة اليومية للفلاح المصري الذي أدى إلى احترافه منذ فجر التاريخ واحدة من أقدم المهن على الأرض وهي الزراعة وبذلك ارتبط دولاب الحياة المصرية كاملاً بالنهر الخالد .

* ثالثاً: إن ميلاد الدولة المركزية في مصر القديمة قد ارتبط هو الآخر بشؤون النهر وتوزيع مياه الري فيه وضبط مواقيت الزراعة، فالدولة المصرية القديمة القوية والمعروفة بالمركزية الشديدة مدينة في عوامل صلابتها وتماسكها لنهر النيل بالدرجة الأولى، لذلك أفاض في وصفه المؤرخون وتغنى به الشعراء وازدهرت حوله الفنون، وعندما غنى عبد الوهاب، قائلاً النيل نجاشي كان يشير إلى إمبراطور الحبشة أهم دول المنبع وأكثرها أهمية حتى اليوم .

* رابعاً: إذا قمنا بقفزة كبيرة عبر التاريخ وانتقلنا إلى ما يسمى بأزمة النهر الحالية والحوار الدائر بين دول الحوض فإننا نقول صراحةً إن من الأخطاء الحقيقية للتعامل مع هذه الأزمة التركيز فقط على الجوانب الفنية، فالقضية أكبر من ذلك وأشمل، إنها قضية سياسية تنموية بالدرجة الأولى وليست مجرد حصص مياه يجري توزيعها أو أرقام يتم تداولها بل هي في النهاية اتفاقيات مرعية يشعر فيها كل الأطراف بحد أدنى يرضيه من عدالة التوزيع وعوامل التنمية . فلقد وجد الأشقاء الأفارقة من يهمس في آذانهم أن العرب قد استخرجوا النفط من باطن الأرض لكي يكونوا أثرياء القرن العشرين، وأنتم أيها الأفارقة تهبط عليكم الأمطار من السماء وقد جاء الوقت لكي تكونوا أثرياء القرن الحادي والعشرين . إذ إن الحاجة للمياه لا تقل عن الحاجة إلى النفط، فالمياه والنفط كلاهما منحة من الطبيعة حان الوقت لأن يتساوى عائدهما، بل وأضاف هؤلاء المغرضون قائلين إن تسعير المياه حق ممكن لغير دول الحوض ونحن مشترون جاهزون لها! بينما الأهداف لدى هؤلاء الذين يوسوسون في العقل الإفريقي الطيب والفقير هي أهداف إستراتيجية وأمنية وسياسية بالدرجة الأولى، ولقد فطنت الدولة المصرية إلى ذلك أخيراً وانتقل الملف إلى جهات سيادية عليا بإشراف رئيس البلاد شخصياً لأن الاتصالات العلوية الهادئة هي الأفضل وليست المباحثات الفنية هي الطريق الوحيد لإقناع كل الأطراف مع احترامنا الشديد لاسم كبير مثل الدكتور محمود أبو زيد الرئيس الشرفي للمجلس العالمي للمياه وأحد أبرز الخبراء الدوليين في هذا المجال، مع تقديرنا أيضاً للجهد المخلص للوزير الحالي، إلا أن المشكلة في ظني لا تكمن في كمية المياه المتاحة لدول الحوض، ولكن تكمن في الشعور الدفين بالفوارق التنموية والتكنولوجية بين دول جنوب الحوض ودول شماله واضعين في الاعتبار أن الهدر في مياه النيل يزيد عشرات الأضعاف عن المستخدم منه، ولكن تلك الدول الفقيرة ترى الأمطار تهطل على هضابها صباح مساء وهم يعانون في الوقت ذاته مجاعة الغذاء ونقص الكهرباء وجميع مظاهر التخلف التي لا تخطئها العين، ولقد شهدت شخصياً في زيارتي الأخيرة عام 2009 للدولة الإثيوبية مظاهر الفقر الشائع برغم جهود الحكومة هناك للخروج من مأزق التخلف القاتل .

* خامساً: لقد لاحظت في زيارة لمدينة جنيف في يوليو/تموز 2010 للمشاركة ممثلاً لجامعة الدول العربية في المؤتمر الدولي لرؤساء البرلمانات، حيث التقيت هناك برئيس البرلمان الإثيوبي الذي درس في القاهرة وعمل بها لسنوات في حياته الوظيفية، فلاحظت أن روح التحفظ التي قابلني بها في زيارتي لإثيوبيا في العام الماضي قد اختفت، وأقبل علي مهللاً ومحتضناً فأدركت مدى سعادة بلاده بحجم الاستثمارات المصرية التي بدأت تتدفق عليهم والمعونة الفنية التي تسعى إليهم، فقد اكتشفوا أن مصر قد أدركت أخيراً أن ملف مياه النهر تنموي اقتصادي وليس فنياً أو حسابياً فقط .

أقول صراحة إن عملية الهرولة كل عدة سنوات نحو دول جنوب الحوض هي عملية انتهازية مكشوفة وهي تغري تلك الدول بالاتجاه نحو الابتزاز أكثر مما تدفعها نحو التعاون لأنها تبدو مواقف موسمية أيضاً مثلما هي المياه التي تهطل على هضبة الحبشة .

. . هذه ملاحظات أردت بها ومنها أن أؤكد ما يذهب إليه خبراء النهر من أن القضية تنموية دائمة وتعاون دولي مستمر من دون تهويل أو تهوين، فالخطر ليس كما صورته بعض الأقلام المصرية لأننا نعيش في عالم تحكمه اتفاقيات دولية والتزامات تعاقدية، كما أن حقوق دول المجرى والمصب هي نفس حقوق دول المنبع والمسار، لذلك فإن نهر النيل يجري منذ الأزل ولن يتوقف بإذن الله أبداً .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"