اليونان وروح الاتحاد الأوروبي

05:09 صباحا
قراءة 4 دقائق

الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تعصف باليونان ترهن بشكل لافت مستقبل الاتحاد الأوروبي، لأن خروج هذا البلد من منطقة اليورو، يمثل في أعين الكثير من الملاحظين والمحللين إعلاناً عن قرب انهيار الاتحاد الأوروبي ومؤسساته المالية والسياسية التي بذلت الدول الأوروبية الكبرى جهوداً جبارة من أجل بنائها وترسيخ دعائمها . وعليه فإن انسحاب اليونان سيؤدي إلى فقدان الثقة في هذا التنظيم الاقتصادي والسياسي الكبير، ولن يمر وقت طويل حتى تلتحق دول أخرى بركب الزورق اليوناني الغارق، ويفقِد بذلك الاتحاد مبررات وجوده، إذ من الصعب على المواطنين الأوروبيين تصور وجود كيان أوروبي موحد من دون الأيقونة اليونانية . فأوروبا- القارة بوصفها تمثل هوية حضارية وسياسية، ستكون مفتقرة إلى جانب كبير من معانيها ومن العوامل المؤثرة في وجودها بمجرد انفصالها عن اليونان، لأن السياسة والاقتصاد وحتى الجغرافيا الأوروبية ستكون خالية من المعنى إذا ما فصلناها عن مهد الحكمة الغربية بحسب تعبير الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل .

ويمكن القول في هذا السياق، إنه ورغم إلحاح الرئيس الفرنسي الجديد فرانسوا هولاند والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، على ضرورة بقاء اليونان في منطقة اليورو، فإن خروجها المحتمل منها لم يعد يمثل خطاً أحمر بالنسبة إلى كثيرين من مسؤولي وإطارات البنك المركزي الأوروبي، الذين باتوا يتوقعون حدوث طلاق بالتراضي بين اليونان ومنطقة اليورو . وهذا الاحتمال الاستثنائي لا ينفي أن دول الاتحاد الأوروبي ستبذل كل ما في وسعها من أجل الإبقاء على عضوية اليونان، خاصة أن الأغلبية الساحقة من الأوروبيين باتت تؤيد المسعى الفرنسي الذي يدعو إلى ربط إجراءات التقشف بسياسة اقتصادية عامة وشاملة تُسهم في بعث النمو، وبالتالي فقد كان لافتاً أن الموقف الفرنسي حصل أيضاً على دعم دولي من خارج دول الاتحاد أثناء انعقاد القمة الأخيرة لمجموعة الثمانية الكبار في الولايات المتحدة، حيث عبّر الرئيس باراك أوباما عن مساندته لسياسة أوروبية قائمة على تحفيز النمو الاقتصادي وليس- فقط- على التقشف والصرامة في تسيير الميزانية العامة، من منطلق أن الولايات المتحدة الأمريكية تتصدر دول العالم الأقل احتراماً لقواعد الانضباط المالي بسبب مديونيتها الكبيرة .

غير أن كل هذه الجهود الفرنسية والأوروبية ستكون عديمة الفعالية في حال إقدام اليونانيين في انتخابات 17 يونيو/حزيران المقبل، على اختيار التشكيلات السياسية اليسارية - ذات التوجهات الجذرية - التي تدعو إلى رفض إجراءات التقشف التي تفرضها المؤسسات المالية الأوروبية، والتي تمثل شرطاً أساسياً من أجل مساهمتها في إنقاذ الاقتصاد اليوناني من الغرق، الأمر الذي سيدفع بدول الاتحاد إلى معاقبة مثل هذا السلوك المتمرد حتى لا يؤثر النموذج اليوناني في باقي دول منطقة اليورو . وفضلاً عن ذلك فإن المتتبعين للشأن الأوروبي يرون أن صعوبة الحالة اليونانية لا تقف عند هذا الحد، فقوانين الاتحاد الأوروبي لا توضح - في صورتها الحالية - الكيفيات والتنظيمات الإجرائية التي يتوجب على كل دولة عضو في الاتحاد، اتباعها من أجل الانسحاب من اتفاقية العملة الموحدة، كما أنها لا تفصح عن الأسلوب أو الطريقة التي يجب اعتمادها من أجل إقصاء عضو من أعضائها، وبالتالي يمكننا أن نزعم أن أعضاء الاتحاد سيجدون صعوبة بالغة من أجل التوصل إلى اعتماد قرار جماعي يؤكد ضرورة إخراج اليونان من منطقة اليورو . ومع ذلك هناك من يقترح أن تبقى اليونان ضمن مجموعة 27 التي تشمل كل دول الاتحاد الأوروبي، مع تخليها عن العملة الموحدة، لتلتحق بدول الأتحاد غير المنضوية قي مجموعة الدول التي قبلت الانضمام إلى منطقة اليورو، مثل بريطانيا والدنمارك والسويد، التي مازالت تحتفظ بعملاتها الوطنية .

ونستطيع أن نستنتج بناءً على ما تقدم، أن دول الاتحاد الأوروبي توجد في وضعية سياسية صعبة بالنسبة إلى الحالة اليونانية، فهي لا تستطيع إقصاء اليونان من دون أن يكون لمثل هذه الخطوة تداعيات سلبية على استقرار مؤسسات الاتحاد . والشيء نفسه يمكن أن يقال عن اليونان، لأن رفضها التعامل مع الإجراءات التقشفية لمؤسسات الاتحاد، سيجعلها تصل إلى وضعية عجز مالي شامل، تصبح معها غير قادرة حتى على صرف مرتبات موظفيها .

لا مندوحة من الاعتراف، إن إخفاق الاتحاد الأوروبي في إيجاد حل ملائم للأزمة اليونانية سيتمخض عنه زلزال سياسي كبير، بالنسبة إلى كيان وهوية الاتحاد الأوروبي الذي يصعب عليه - في كل الأحوال- أن يتنفس من دون رئتيه الرئيستين: الجرمانية والإغريقية، لأن المكونات الأوروبية الأخرى، تظل عاجزة عن التعبير بصورة بليغة عن هوية أوروبا، سواء من حيث مقوماتها الحضارية والتاريخية أو انطلاقاً من أبعادها المستقبلية . فروح الحكمة الأوروبية نشأت وتشكلت في سياق المحطة الإغريقية في أثينا التي عرفت أول شكل من أشكال الديمقراطية، ووصلت- من ثمة - إلى قمة عطائها التنويري مع العبقرية الألمانية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"