انتفاضة شعب لا انتفاضة سكاكين

00:17 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمود الريماوي

تتوارد الأنباء يومياً عن محاولات طعن جنود صهاينة بالسكاكين، أو محاولات دهسهم من سائقين فلسطينيين، وعن قيام هؤلاء الجنود بإطلاق النار على أصحاب هذه المحاولات. ثم يتبين في العديد من الحالات أنه ليست هناك مبادرات من هذا النوع. ومغزى ذلك أن العدو يستغل أجواء التوتر للقيام بإعدامات بدم بارد؛ لا تطال الشبان فقط، بل تطال الشابات والمسنين والمسنات أيضاً، كما حدث الجمعة الماضي في الخليل جنوبي الضفة الغربية، حين قتل جنود الاحتلال السيدة ثروت الشعراوي (72 عاماً) في سيارتها بدعوى أنها حاولت دهس جنود.

التصعيد الصهيوني أتى بعد ضوء أخضر «قانوني» أجاز للجنود القتل في حالات الاشتباه، وتحت عنوان مكافحة الإرهاب، ومن هذه التسهيلات «القانونية» توقيع عقوبة السجن الفعلي على الأطفال، وتغريم ذوي من يقذفون الحجارة مع رفع عقوبة السجن على إلقاء الحجارة، وجعلها مفتوحة بين 5 سنوات و20 سنة!! يذكر هنا أن حكومة الاحتلال لا تتقيد حتى بالقوانين التي تمر في الكنيست، حيث يتم إصدار تعليمات أكثر تشدداً، ومن قبل رئيس الحكومة نتنياهو شخصياً، حتى لو تناقضت مع تشريعات أقرّها الكنيست، كما هي الحال مع قذف الحجارة، إذ لا يتم الاكتفاء بعقوبة السجن العالية، ويُجرى إطلاق النار من دون تردد، مع عدم تمكين المسعفين من إسعاف المصابين، وقد حدث بالفعل أن نزف بعض الشبان والشابات حتى الموت في عُرض الشارع تحت أنظار الجنود والمارة. ومحفوظات «اليوتيوب» تشهد على هذه الوقائع الوحشية.

إذا كانت هناك موجة عنف في الأراضي المحتلة، فإن لقوات الاحتلال النصيب الأكبر في جرائم القتل التي وقعت. تجدر الإشارة هنا إلى أن أطرافاً عدة تقوم بارتكاب جرائم القتل ابتداء بجنود الاحتلال مروراً بالمستوطنين المسلحين، وانتهاء بفرق المستعربين. والفئة الأخيرة تتمثل بمجموعات أمنية يرتدي أفرادها الزي المدني الفلسطيني، وقد يتلفع بعضهم بكوفية مرقطة ويندسون بين المتظاهرين، ويقومون بإطلاق النار على المحتجين من مسافات جد قريبة.
ليس هذا بالطبع بغريب على كيان نشأ بالعنف، ولا على احتلال توسعي لم يتم إلّا بالعربدة المسلحة. إنما ما يستحق التوقف عنده هو حاجة الانتفاضة إلى التدقيق في أساليب نشاطاتها، وتخير الأفضل منها الذي يحمل مردوداً سياسياً أعلى.
فلئن كانت الانتفاضة قد بدأت بمحاولات طعن جنود بالسكاكين، وذلك في أجواء العنف التي أشاعها الجنود والمستوطنون المسلحون في باحات المسجد الأقصى، وحولها، فإن هذه المبادرات العفوية والشجاعة يجب ألّا تحكم بالضرورة أنشطة الانتفاضة، وألّا يكون المسار محكوماً بالبدايات. ذلك أن تسمية مثل «انتفاضة السكاكين» قابلة لاستغلالها من طرف الاحتلال، والأهم من ذلك أن العدو يبحث عن فرصة وذريعة للتغطية على جرائمه، ومحاولة تسويغها في أنظار العالم؛ باعتبارها دفاعاً مزعوماً عن النفس، والأفضل من ذلك هو الاكتفاء بوصفها انتفاضة شعبية، والحرص على محتواها الجماهيري كانتفاضة ذات طابع جماعي، وليس كهبّة تقتصر على مبادرات فردية جسورة.
ولا يتعلق الأمر بتراجع عن الاندفاع، أو انكفاء عن مبادرات تقض مضاجع العدو، بل يتصل بأهمية تنظيم الانتفاضة وتثمير جهودها، وحرمان الطرف الآخر من التذرع بأية ذرائع، وإبراز مبادرات شبان بطعن جنود الاحتلال على أنها رد فعل على مظاهر التجييش والعسكرة التي تحكم قبضة حديدية على بيت المقدس، وعلى أنفاس المقدسيين، وعلى أن خط الانتفاضة يبقى خطاً جماهيرياً مدنياً ضد عنف الاحتلال، وضد وجود هذا الاحتلال السرطاني في الأساس.

ليس لأحد أن يرسم صيغاً جاهزة ومسبقة للمنتفضين ضد هذا الاحتلال، فهم أدرى بظروفهم وبالوسائل الناجعة لمقارعة عدوهم اللئيم، ولاشك أن الانتفاضة الأخيرة لم تخرج بإذنٍ من أحد، وقد فاجأت الفصائل كبيرها وصغيرها، وبرهنت على أن إرادة الصمود لا تهدأ وشعلة التحدي لا تنطفئ، مهما بدا على السطح في بعض المراحل من سكون، غير أن الأمر يتعلق هنا بأهمية الانتقال مما هو عفوي إلى ما هو منظم، ومن المبادرات الفردية إلى المشاركة الجماعية أو شبه الجماعية، بحيث يمكن لهذه الانتفاضة أن تستمر بالأشكال التي يرتئيها المنتفضون، على أن تترافق مع جهد سياسي وإعلامي مثابر يواكب الانتفاضة، ويحمل رسالتها الجوهرية إلى العالم باعتبارها ظاهرة احتجاج شعبية ضد استمرار الاحتلال، ودعوة لرحيله بعد أن طال مكوثه.

ولقد آن أن تتكيف السلطة مع نبض الشارع وإيقاعه، لا أن تتم الدعوة إلى عكس ذلك، من قبيل الدعوات إلى تفويت الفرص على العدو. نعم هناك حاجة إلى عدم الانسياق وراء العنف (رغم أن دواعيه مبررة، ودوافعه مشروعة)، إذ إن العبرة هي في النتائج وفي الثمار المرجوة. على ألّا يكون البديل للعنف هو الصمت والركون إلى الانتظار! كم يروق ذلك لبعض التيارات النافذة في السلطة. فالفيصل هو أن تبقى الإرادة الشعبية مُشهرة، وأن تستمر المواجهة السياسية الحازمة ضد العدو، وألّا تعرقل السلطة انتفاضة المنتفضين تحت أي شعار أو ادعاء، وأن يُجرى طي صفحة التنسيق الأمني بصورة نهائية، ريثما يخضع العدو للقانون الدولي، ولحق الشعب الرازح تحت الاحتلال في الحرية والاستقلال.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"