بوادر غير طيبة في عالم متخبط

05:15 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

خطر خاطر مرات غير قليلة خلال الأعوام الأخيرة يدعوني إلى أن أهدأ وأتوقف عن القلق على بلدي، وعلى البلاد القريبة عاطفياً من بلدي وعلى سلام العالم الخارجي. كانت حجته -وأقصد حجة الخاطر- هذه المرة، بعيدة عن واقع الأحوال ومنطق التطورات، وتتلخص في كلمات قليلة يرددها الزوار أمام مرضى الحالات المستعصية، مفادها أن الأطباء يعرفون ما يفعلون وقادرون على وقف الألم، وربما إصلاح ما فسد. في زمن ولى، ولم يعد، كنا نهز الرؤوس علامة الموافقة ونقول: نعم لا شك أن هؤلاء النفر من الزعماء الذين يحكمون ويخططون ويقررون لن يتركوا العالم يحترق وهم المسؤولون عنه وعن سلامة شعوبهم وهم الحريصون على بقاء دولهم.
بدأ تفاؤلي يتناقص مع انهيار القوة السوفييتية. عزز هذا التناقص التوحش الذي أصيبت به دوائر التخطيط الدفاعي في البنتاجون والبيت الأبيض في عهد الرئيسين بوش، خاصة ولاية بوش الصغير. بدأت المرحلة بوهم إقامة نظام دولي جديد على أساس القطبية الأحادية. وقتها انتهى التاريخ بالنسبة لمفكرين وسياسيين أمريكيين وانتشر الهوس، ثم ازدادت الأمور سوءاً عندما انعكس الهوس الديني على السياسة الخارجية الأمريكية، وتوسع المحافظون الجدد في احتلال المناصب وتوجيه السياسة والنصح بشن الحرب، وبالمناسبة كان جون بولتون وقتها متدرباً في مكاتبهم. عرفت وقتها أن فرص العنف في السياسة الدولية سوف تزداد. بالفعل سمحوا للتطرف الإسلامي بالتغول. دمروا العراق بعد أن شجعوا رئيسه ودعموه في حربه ضد إيران، وتحكموا في توازنات القوة الإقليمية بما يخدم أهداف «إسرائيل».
ما يهمني الآن ويقلقني في نفس الحين، أننا نكاد نرى القصة تتكرر بتفاصيلها القديمة المذهلة وتفاصيل جديدة مؤلمة. مرت فترة مهمة في التاريخ المعاصر، شهدنا فيها بدايات الصعود الصيني على المسرح العالمي.
ساد لدينا أمل كبير في أن العالم بخير، ما استمرت الصين تصعد برفق، واستمرت أمريكا تنحدر برفق. تفاءلنا لأن توازناً في القوة سوف يتحقق من تلقاء نفسه بين دولة صاعدة تسعى لمكان متميز في القمة الدولية، ودولة تنحدر من مكان «متخيل» كمكان الدولة العُظمى إلى مكان أقل شأناً.
كان التوازن في القوة بين الدولتين كفيلاً في نظرنا بتحقيق سلام دولي، سوف يأخذ في أسوأ أشكاله سمات الحرب الباردة، وفي أحسنها التعاون لبناء نظام دولي جديد، نظام يسمح للصين بأن يكون لها دور رئيسي في صياغته.
أمور كثيرة ليست في موقعها الصحيح، أو أنها لم تسلك مسارات توقعها المتفائلون أو المنظرون. أعرض في السطور التالية بعض هذه الأمور، التي أخشى أنها إذا استمرت فقد تتسبب في صنع مزيد من القلق، أو تؤدي إلى الانزلاق نحو عنف تمناه قليلون ويحاول كثيرون تفاديه أبداً:
* أولاً: بالتحول في السياسة الخارجية الأمريكية من حال استقرار معقول إلى فوضى، أظن أن جانباً منها متعمد. الجزء الذي يهمنا هنا هو الخاص بالحرب التجارية المفاجئة التي أعلن الرئيس الأمريكي شنها على الصين. هذه الحرب بالإضافة إلى أعمال أخرى في جنوب شرق آسيا وتطورات في أوروبا وروسيا أقنعت الرئيس شي بضرورة تسريع مسيرة الصعود إلى القمة الدولية، وقد حدث.
* ثانياً: إفريقيا، ساحتنا الخلفية، تعود بسرعة رهيبة ساحة تسابق بين دول عديدة. من هذه الدول دولٌ جربت الاستعمار من مواقع القوة وادعاء التفوق العنصري، ودولٌ جربت منه جانب الهيمنة، وتتدخل الآن في إفريقيا لتجرب الجوانب الأخرى للاستعمار، ودولٌ كانت في جزء من تاريخها ضحية استعمار، وها هي تأتي باستثمارات هائلة ومشاريع بنية تحتية. صنف رابع من الدول يغامر الآن في إفريقيا دون أي خبرة سابقة في الاستعمار، حجته أنه يمتلك ثروات تشتري نفوذاً. أخاف من كل صور هذا الاستعمار الجديد في إفريقيا، أخاف من عنف في قارة عادوا إليها ليستأنفوا تجفيف منابع ثرواتها ويسخروا من شعوبها أو يسخروها ثم يرحلوا. أخاف على إفريقيا من هؤلاء، وأخاف أكثر على أفارقة من أفارقة لم يعودوا أفارقة.
* ثالثاً، أوروبا في حالتها الراهنة غير مؤهلة للدفاع عن نفسها، وفي الوقت نفسه غير مستعدة للعودة إلى وضع الحليف المطيع. بفضل هذه الطاعة حمت الولايات المتحدة مصالحها وعززت دفاعاتها، وبفضل هذه الحماية استعادت أوروبا الغربية قدراتها الصناعية والإنتاجية وعادت متفوقة، هذا الوضع لن يتكرر، التهديد ماثل وفي رأيي متفاقم من جانب تيارات وقوى سياسية تبحث عن بديل أو بدائل لأنماط حكم لم تعد قادرة على تجديد نفسها وإرضاء شعوبها.
* رابعاً: عن الشرق الأوسط، أريد أن أكتب الكثير والكثير، تخرج الكلمات ثقيلة، هذا إن خرجت، ماذا أقول؟.. أقول للشعوب العربية وقادتها:
الإقليم من أقصاه إلى أدناه ما زال يعيش حالة عنف لم تتوقف منذ انتهت الحرب العالمية الثانية. فشلنا في إقامة نظام إقليمي يحمي أمن شعوبنا ويحقق رخاءً عاماً ومشتركاً، ويقيم قاعدة إنتاجية تثمر رخاء في سلام. لم نحقق الرخاء العام، ولم تحصل شعوبنا على الحماية، وتدحرجت مكانتنا أمام جميع الخلق، ولم ننعم بلحظة سلام. يجرح مشاعري ومشاعر عرب كثيرين سخريات الرئيس ترامب اليومية والمتفاوتة من العرب، ويجرحها مرات ومرات الرئيس بوتين بلقاءاته شبه الدورية بحكام غير عرب للتداول في شؤون العرب ولا عربي فيها.
ليس على أرضنا مشروع عربي للنهضة، وليس على حدودنا الإقليمية مع الجوار دفاعات تحمينا، وليس في قدرتنا السياسية مجتمعة أو منفردة وقف السباق لتصفية فلسطين، وإغلاق ملفات قضايا وحقوق أخرى كثيرة.
البوادر بالفعل غير طيبة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"