بوتين والخيارات الصعبة

04:13 صباحا
قراءة 3 دقائق

د . ناصر زيدان

منذ بداية حياته في صفوف جهاز الاستخبارات السوفييتية في ثمانينات القرن الماضي، يهوى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العمل في الاماكن الصعبة، ويختار لنفسه المهام القاسية التي يتهرَّب منها غيره . تلك كانت عناوين مهامه الأمنية في برلين الشرقية قبل أن تتوحَّد المدينة في اعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي عام ،1990 وعلى الوتيرة ذاتها من الصعوبة اختار العمل المُضني في رئاسة بلدية المدينة الأشهر في روسيا، حيث أدى مهام فائقة التعقيد، عندما حوَّل العاصمة السابقة للقياصرة من ليننغراد إلى سان بطرس بورغ، الاسم الاساسي لها قبل الثورة الشيوعية التي قادها فلاديمير لينين عام 1917 .
وتوالت مهام بوتين الصعبة لاحقاً عندما اختاره الرئيس الراحل بوريس يلتسين عام 1999 رئيساً للوزراء في روسيا، فدخل بقوة إلى الشيشان وقضى على المعارضة هناك، وبعد ذلك خاض حرباً لا هوادة فيها، في مواجهة المافيات التي سيطرت على اقتصاد روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لاسيما منهم تجار النفط والغاز الكبار، ووضع هذا القطاع برمته تحت اشراف الحكومة المركزية . ومن المهام الخطِرة التي كان بوتين يغامر في القيام بها، اعتماده سياسة "ديكتاتورية الطاقة" مع أوروبا، وفقاً لما كان يحلو للرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي وصفها . ومن دواليب اقفال أنابيب النفط والغاز التي تعبُر السهوب الأوكرانية من بلاده إلى أوروبا، بدأت تنشأ المُشكلة الأوكرانية، التي وصلت اليوم لتكون من أخطر الملفات الدولية على الاطلاق، وتداعياتها تُهدد بتفاقم التوتر في أوروبا بشكلٍ خاص، وعلى مُجمل العلاقات بين الشرق والغرب .
بعد تفاقُم المُشكلة الأوكرانية وتحولها من صراع داخلي بين الموالاة والمعارضة الى صراع دولي بين روسيا من جهة والولايات المتحدة وبعض دول أوروبا الغربية من جهة ثانية، اندفع بوتين إلى أقصى درجات التصعيد، وأعلن إعادة جزيرة القرم الى السيادة الروسية، بعد استفتاء جرى في 16 مارس/آذار 2014 . ما دفع بالتوتر بين بلاده والغرب الى مراحل مُتقدِّمة، وفرضت الولايات المتحدة والدول الغربية عقوبات اقتصادية مُوجعة على روسيا، كادت أن تؤدي إلى ما يُشبه الانهيار للاقتصاد الروسي، لأن هذه العقوبات ترافقت مع انخفاض حاد لأسعار النفط والغاز، وهاتان المادتان الحيويتان يعتمد الاقتصاد الروسي على عائداتهما، خصوصاً تحصيل العملات الأجنبية الصعبة التي انخفضت، فتدنَّى سعر صرف الروبل الروسي بشكل كبير امام هذه العملات .
الامبراطورة الروسية كاترينا التي حكمت البلاد في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، كانت تقول: من يُسيطر على القُرم يُسيطر على البحر الأسود، وهو البحر الداخلي الأهم على مستوى العالم . والجزيرة كانت تقطنها أغلبية إسلامية قبل أن يحتلها القياصرة، حيث جرت تغييرات ديمغرافية كبيرة فيها، وأصبح سكانها من الأصول الروسية، يُشكلون اليوم أكثر من 58% من القاطنين على أرضها . القُرم كانت تتبع ادراياً الى جمهورية أوكرانيا ذات السيادة أيام الاتحاد السوفييتي السابق، بينما كانت قبل عام 1954 من ضمن الخريط الروسية، والكرملين يقول اليوم إنه أعادها إلى الوضع الذي كانت عليه، وبموافقة الأغلبية الساحقة من سكانها، لكن الغرب رأى سلخ الجزيرة عن السيادة الأوكرانية تهوراً مبالغاً فيه من قبل إدارة بوتين، لأن تغيير الخرائط في أوروبا يحمل أخطاراً كبيرة، وعادةً ما كان يُسبب الحروب .
بوتين يُغامر اليوم في استعادة الثُنائية القطبية، ويحاول أن يتعامل مع الولايات المتحدة بالندية، تلك مغامرة صعبة من النواحي السياسية والاستراتيجية، وحتى العسكرية، ولا يكفي امتلاك موسكو لترسانة نووية مُخيفة، لكي تتعامل مع واشنطن على المستوى نفسه، لأن الفوارق التي تفصل بين مكانة البلدين كبيرة جداً . فبينما لا تتجاوز ميزانية الدفاع الروسية ال 100مليار دولار أمريكي في العام ،2015 تبلغ موازنة الدفاع الأمريكية وملحقاتها أكثر من 578 مليار دولار عن العام نفسه .
ومن الخيارات الصعبة التي يسلكها بوتين اليوم، اعادة الطلعات الجوية فوق القطب الشمالي، وعلى مقربة من الأماكن الاستراتيجية الحساسة في الشمال الأوروبي، في استعادة لتقليد سوفييتي قديم، ما يُهدد بإعادة النموذج الساخن من الحرب الباردة .
ولعلَّ أخطر الصعوبات التي اختارها بوتين اليوم، كانت القرار الذي اتخذه بإلغاء الحظر عن تسليم إيران صواريخ "اس 300" المتطورة، المضادة للطائرات، قبل أن يتخذ مجلس الأمن الدولي قراراً برفع العقوبات التي تمنع تصدير السلاح إلى طهران، وترافق القرار الروسي مع الأحداث في اليمن، يُعطي الخطوة طابع التحدي، أو المُشاكسة، رغم أن موسكو لم تستخدم حق النقض ضد قرار مجلس الأمن الرقم ،2216 الذي أدان حلفاء إيران في اليمن .
خيارات بوتين الصعبة، والبرغماتية المُبالغ فيها للرئيس الأمريكي باراك أوباما،تهدد العالم بمرحلة من عدم الاستقرار .
اوباما كان قد وصف بوتين بأنه ثالث "بلوة" لبلاده إلى جانب "داعش" ومرض إيبولا؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم السياسية والقانون الدولي العام.. أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية.. له 10 مؤلفات وعشرات الأبحاث والمقالات والدراسات في الشؤون الدولية..

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"