بورصة البشر

04:15 صباحا
قراءة 5 دقائق

أتطرق اليوم إلى موضوعٍ قد يبدو غريباً، إذ يدور حول قيمة الإنسان في مراحل عمره المختلفة ودورة الحياة السياسية والاجتماعية، التي ترفع وتخفض وتؤكد أننا في مصر أصحاب هوس تاريخي بظاهرة السلطة، وأن نفاق أصحاب النفوذ عادة مصرية متجذرة أضرت بعلاقة المواطن بالسلطة، وقدمت للأخيرة مفهوماً متفرداً لا نكاد نجد له نظيراً في عالم اليوم، حتى أنني أظن أحياناً أن بقايا العصر الفرعوني مازالت مترسبة في أعماقنا، وأننا ما زلنا نقدس من يجلسون على مقاعد القرار ونقدم القرابين لذوي السطوة، ثم تطفو على السطح جينات العصر المملوكي في دمائنا فنعيش أوهام الحكم ونتخيل بطش السلطان.

إنني أقارن ما يحدث لأصدقاء لي أحياناً عندما يتولون المناصب العليا والتغيرات التي تطرأ على شخصياتهم بعدها، فلا أملك إلا أن أقول سبحان مغيِّر الأحوال وسبحان من له الدوام، فالسلطة في مصر لا تزال فرعونية الطابع تصنع مسافة واسعة بين صاحبها ومن حوله. إنني أعرف بعض الوزراء وكيف كان تواضعهم وبساطتهم وابتسامتهم، وكانت شراكتهم لنا في الرأي والموقف قبل الموقع الجديد، فإذا جرى اختيارهم للمنصب الوزاري أو غيره من المناصب المؤثرة نراهم وقد أصبحوا مخلوقات أخرى، نبرة الصوت تتغير ويرتفع الكتفان قليلاً، بل وتكسو ملامح الوجه مسحة استعلاء لا مبرر له، وهم يتقدمون الصفوف ويحتلون بمنطق المراسم المقاعد الأولى ويتصورون فجأة أنهم موهوبون، وأنه قد جرى أخيراً استكشاف قدراتهم الخارقة والاعتراف بها، بل إن آراءهم وأفكارهم تتحول هي الأخرى مائة وثمانين درجة في اتجاه جديد. وفي ظني أن هذه الظاهرة المتفردة تعكس ميراثاً ثقيلاً من ركام عصور مصرية متلاحقة، بدءاً من الفرعون الذي كان يحكم باسم الإله وصولاً إلى المملوك الرعديد الذي جرى شراؤه، فلما تم إعتاقه عاث في الأرض فساداً. إنها مصر أيها السادة مزرعة الأفكار وتكية التاريخ، صاحبة أثقل تراثٍ اجتماعي في الدنيا وأشد الدول حساسية لظاهرة السلطة وتوقيراً لأصحاب النفوذ.

إنني أطالع كل صباح مؤشرات بورصة البشر وأتأمل أوزان الناس وقيمتهم وفقاً لظاهرة السلطة واقترابهم منها أو بعدهم عنها مع دورة العمر وحركة الزمن، فإذا غابت السلطة عن أصحابها وانسحبت المقاعد من تحتهم وذهب الحرس إلى حال سبيله وشحب الضوء وتوقف رنين الهاتف، وجدنا بشراً آخرين يستعيدون ذواتهم الأصلية وقناعاتهم الشخصية ويتحولون إلى حملان وديعة يصافحون الناس بحرارة ويبتسمون بسبب وبغير سبب. وصدق الذي قال إن الوزير يفقد نصف عقله عندما يتولى منصبه ويفقد النصف الآخر عندما يتم إعفاؤه. إنني أقول صراحة إن ظاهرة السلطة في بلادنا تختلف كثيراً عن نظيرتها في ثقافات شعوبٍ أخرى وأساليب التعامل معها والسلوك تجاهها، فحجم تقديس المنصب كبيرٌ في بلادنا وتهويل مكانة الموقع مبالغٌ فيه عندنا، كما أن حملة القرابين وحاملي البخور هم جزء لا يتجزأ من تاريخنا السياسي وتراثنا الاجتماعي، وأنا أحمل صراحة هذه الظاهرة مسؤولية جزء كبير من أسباب تخلف الديمقراطية لدينا وطبيعة المصاعب التي تواجهها في الوطن المصري صاحب التاريخ العريض والتراث الضخم.

وأبادر هنا فأسجل تحفظاً واضحاً وهو أنني رأيت نوعية نادرة من المسؤولين المصريين الذين أضافوا إلى المقعد، ولم يضف لهم وكانوا نموذجاً رفيعاً في الرقي الإنساني والثقة بالنفس والارتفاع فوق هذه الظاهرة الفرعونية المملوكية المقيتة. وسوف أسجل في السطور القادمة بعض الملاحظات التي توضح ما ذهبت إليه وما قصدت التعبير عنه في بلدٍ قال عنه المتنبي بيته الشهير الذي يتحدث صراحة عن الثعالب التي تسعى لنزح ثروات مصر ونوم النواطير أي الحراس، وغفلة الناس في ظل بلد لا تنضب إمكاناته ولا تنتهي موارده! وسوف أتعرض في ملاحظاتي إلى مسألة الشخصانية والتي تعني إلباس القضايا العامة أردية خاصة وإلباس التطلعات الخاصة أثواباً عامة، دعونا نتأمل النقاط التالية:

* أولاً: ما زلت أتذكر مناسبتين توضحان الفارق بين معادن البشر وتأثير السلطة فيهم، ففور إنهاء خدمتي في المؤسسة السيادية الأولى تصادف أن كان هناك حفلان للزفاف بعد أسبوع واحد من مغادرة موقعي، كان الأول لابن أحد المحافظين، وكان الثاني لابن ضابط كبير في المؤسسة التي كنت أعمل بها، وقد تبوأ بعد ذلك المنصب الثاني في القوات المسلحة، وعندما ذهبت إلى زفاف ابن المحافظ وجدت رجاله يقتادونني في أدب مصطنع وتحفظ واضح تجاه إحدى الموائد الخلفية البعيدة باعتباري مغضوباً عليه ومطروداً من الفردوس، مع أن والد صاحب العرس كان يتملقني صباح مساء وينافقني في اليوم الواحد مرتين على الأقل. ثم ذهبت بعدها بيومين إلى العرس الثاني فأجلسني والد العريس صاحب الدعوة الكريمة في مائدة الصدارة وفوجئت بوزير سيادي كبير ينتمي إلى مؤسسة نحترمها جميعاً يترك موقعه ويتجه نحوي في تواضع الكبار محيياً ومقبلاً وداعماً في ظروف قاسية وفترة عصيبة كنت أمر بها، وذلك يعكس معدن الرجال، فالمحافظ السابق دعاني مكرهاً وأجلسني منبوذاً حتى تركت حفله بعد دقائق قليلة، أما ابن العسكرية المصرية فقد تنازل من موقعه الرفيع وقام بلفتة إنسانية أخلاقية لا أنساها، فالسلطة تعمي البعض ولكنها لا تمثل شيئاً للبعض الآخر.

* ثانياً: إنني أتذكر أيضاً عندما كنت سفيراً في فيينا وأنا أجلس في سيارتي ذات صباح نمساوي بارد أن لفت السائق نظري إلى السيارة التي تقف بجانبنا قائلاً (سيدي السفير هذا هو مستشار النمسا السيد كليما) ومنصبه يعادل منصب رئيس الوزراء في بلادنا ورأيت المسؤول النمساوي يجلس في سيارته بهدوء تحتجزه إشارة المرور فيستغرق هو في قراءة الصحيفة دون شعور بالتميز أو إحساس بالاستعلاء على الآخرين، بل إنني سمعت في السودان الشقيق مواطناً مغموراً ينادي رئيس الدولة هناك بكلمة الأخ، والرئيس في الخرطوم ينادي سفيره في القاهرة الأكبر سناً قائلاً يا عم أحمد، فالدول المختلفة والحضارات المتباينة تختلف ثقافتها تجاه قضية السلطة من بلد إلى بلد ومن مجتمع إلى آخر بغض النظر عن التقدم أو التخلف ونحن لا نزال أسرى الطقوس الفرعونية والمراسم المملوكية.

* ثالثاً: لقد حكى لي زميلي الدبلوماسي بوزراة الخارجية المصرية أنه كان يمر ذات صباح بارد على ضفاف نهر التايمز في طريقه إلى مبنى السفارة المصرية بلندن، فإذا بشخص تبدو عليه مظاهر الاحترام والوقار يستوقفه طالباً توصيله، ثم يكتشف زميلي أن هذا الشخص هو وزير الخزانة البريطانية الذي تعطلت سيارته، فرأى أن الملجأ الوحيد هو هذا الأسلوب الحضاري الذي يعكس روح البساطة والتواضع والثقة في الآخرين وهو ما لا نجد له نظيراً في بلادنا.

.. هذه تأملات فيها من الجدية أكثر مما فيها من أي سخرية، وفيها من الواقع أكثر مما فيها من أي مبالغة، إنني أكتب هذه السطور بعد أن التقيت أحد الوزراء مؤخراً من أصحاب نفوذ الثروة والسلطة معاً ولاحظت أن مصافحته أصبحت نوعاً من الملامسة السريعة، وأن شعوره بالذات قد تضخم كثيراً، وقارنت بين وضعه الحالي وما كان عليه منذ سنوات قليلة، وقلت في نفسي (سبحان مغير الأحوال ولا حول ولا قوة إلا بالله).

أريد أن أقول في ختام هذه السطور، أن المقاعد والمواقع والمناصب هي تكليف قبل أن تكون تشريفاً، وأنها تعبر عن إرادة صاحب القرار ولكنها لا تعكس بالضرورة تميزاً لمن يتولى ولا قدرة خارقة ليس لها نظير، دعونا نعترف بأن ظروفاً متشابكة ومصادفات مختلفة تتدخل في تحديد أسعار بورصة البشر فترفع من تريد وتهبط بمن تشاء خلال مساحة زمنية قصيرة، بل إنه عندما يحال المرء إلى التقاعد قد تهبط أسهمه فجأة في بورصة البشر. إنه كون عجيب وكوكب مضطرب ودنيا لا تبقى على حال حيث لا خلود إلا لله وحده.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"