بين السياسة و«السياسة الواصفة»

04:53 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

يشكل تراجع الدور السياسي للنخب في ظل التطورات التقنية الراهنة، تحدياً كبيراً بالنسبة لمستقبل التفكير في المجال السياسي، ويطرح أسئلة جدية بشأن الانتقال من مستوى السياسة في صيغها المرتبطة بالممارسة اليومية وتسيير الشأن العام إلى المستوى الفوقي الواصف، الذي يمكنه أن يساعد على تقديم مقاربات أكثر عمقاً للراهن السياسي الذي يفرض علينا في معظم الأحيان ممارسة الفعل السياسي دون الأخذ في الحسبان الصعوبات الناجمة عن الطابع المركب للأحداث. ومن ثم فإن الانتقال من السياسة المرتبطة بتسيير شؤون المدينة والدولة إلى ما بعد السياسة، يتيح لنا ولوج عالم السياسية الفوقية أو السياسة الواصفة، التي تلعب بالنسبة للسياسة الدور نفسه الذي يلعبه خطاب الخطاب أو لغة اللغة بوصفها لغة فوقية بالنسبة للغة الطبيعية، وذلك لتحقيق التعالي السياسي بعيداً عن السياسة كممارسة يومية.
وتشير المقاربة الأكاديمية للسياسة كممارسة وليس كتأمل فكري بشأن السياسة، إلى أن السياسة تطرح في مجال اختصاصها أسئلة عدة عن طبيعة الحكم وعن تشكيل النخب الحاكمة وأسلوب إدارة الدولة لشؤونها، إضافة إلى مواضيع أخرى تتعلق بالأحزاب السياسية ودور المواطن في العملية الانتخابية والسياسية ونشاط المجتمع المدني، ودوره أيضاً في تسيير الشأن العام، إلى جانب كل ما يتعلق بالبرامج والإيديولوجيات والعلاقات الدولية.
وتكرس العلوم السياسية، كما يقول جان فرانسوا دورتيه، جل اهتمامها لدراسة السلطة السياسية في المجتمعات المعاصرة؛ حيث تهتم السلطة بإدارة شؤون التجمعات السكانية من القبيلة إلى المدينة ثم الإمبراطورية وصولاً إلى الدولة القومية.
وقد اهتمت السياسة بوصفها اختصاصاً معرفياً بدراسة النخب السياسية والبنيات البيروقراطية للدولة وبالحقوق والإدارة والفلسفة السياسية، كما اعتنت بدراسة العلاقات الدولية والجيوسياسية وعلاقة السياسة بالعلوم الاجتماعية، مثل: الأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع، ولذلك يجري الحديث في الأغلب عن العلوم السياسية وليس عن علم سياسي موحد.
كما اعتمد هذا الاختصاص المعرفي على المنهج الوظيفي الذي يركز على الوظائف المختلفة للدولة من حيث أبعادها المجتمعية المختلفة، وبخاصة الوظائف الأربعة الرئيسية: التنفيذية، التشريعية، القضائية، الاجتماعية؛ ثم على المنهج التطوري الذي يسعى إلى الاستفادة من التطورات الحاصلة على مستوى التصورات المتعلقة بالمؤسسات السياسية، وكان لهذا المنهج دور مؤثر في الدراسات التي تعطي اهتماماً واضحاً للنمو الاقتصادي سواء بالنسبة لأنصار العولمة أو المدافعين عن مصالح الدولة الوطنية؛ وقد يكون المنهج القائم على الخيار العقلاني أكثر المناهج بروزاً في الحقبة المعاصرة، وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث سمحت أعمال كينت آروي في المجال الاقتصادي بتطبيق أساليب الرياضيات على الانتخابات وإدخال نظرية الألعاب والنظرية الرياضية في اتخاذ القرار في المجال السياسي، وهناك إضافة إلى كل ما تقدم أنماط تحليل أخرى للسياسة في سياقاتها التداولية.
أما «الميتاسياسة» أي ما بعد السياسة التي نسميها هنا بالسياسة الفوقية أو الواصفة فهي تهتم بما هو موجود ما وراء الشؤون العامة، وهي لا تدرس السياق الميتافيزيقي للسياسة أو مدى تطابق الوجود الإنساني مع الرؤية الكونية للأديان، بقدر ما تحاول أن تكون نظرية شارحة لكل النظريات السياسية المتداولة مع التركيز على طابعها المتعلق بما بعد الشأن العام؛ الأمر الذي يسمح لها بتحقيق فهم أفضل لكل ما يتصل بالشأن العمومي دون الاستغراق والذوبان في تفاصيله.
ويمكن القول إن مفهوم السياسة الواصفة، مازال يحمل مضامين غامضة ويوظف على نطاق محدود، وهو يطمح الآن بأن يسهم في إيجاد أشكال غير مألوفة من الحكم ومن الممارسة السياسية والمؤسساتية.
لا يتعلق الأمر هنا بما أشار إليه البعض، من أن السياسة الواصفة تحيل إلى وجود شرط مسبق أو إلى استراتيجية تعمل على التأثير على الحقلين السياسي والثقافي قبل الوصول إلى مرحلة الممارسة السياسية الفعلية، كما ألمح إلى ذلك غرامشي، أو بتأسيس سياسة كبرى تهدم كل الأنساق القائمة بالمعنى الذي قصده نيتشه.
كما أن السياسة الواصفة، ليست محاولة للترويج لتأثير النخب المفكرة في مواجهة عالم الهوية التقنية المُغْفلة التي تتحكم فيها قواعد السوق، وهي ليست أيضاً تلك الآثار التي يمكن للفلسفة أن تستفيد منها بذاتها ولذاتها أو مجرد معارضة للفلسفة السياسية التي تدعي، كما يقول آلان باديو، أن السياسات لا تنتج أفكاراً، وأنه من مهام الفلاسفة التفكير فيما هو سياسي. إنها تسعى فقط إلى تفكيك المقولات التقليدية للسياسات المهيمنة، وإلى ما يسميه جاك رانسيير بالاعتراف المندد بالإفراط في الظلم وانعدام المساواة في مواجهة ادعاء الديمقراطيات ممارسة العدل والمساواة، وتسعى إلى تحقيق فهم أفضل لمعادلة النظام واللانظام، من أجل المساهمة في بروز نظام دولي جديد أكثر عدلاً وإنصافاً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"