بين القانونية الدستورية والشرعية الشعبية

01:17 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

يمكن الاعتبار أن انتخاب دونالد ترامب حصل رسمياً في ١٩ ديسمبر/كانون الأول المنصرم عندما اجتمعت الهيئة الناخبة وثبتت فوزه في الانتخابات التي جرت في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. فكما كان متوقعاً حصل ترامب على أكثرية ٣٠٦ أصوات من أصل ٥٣٨ صوتاً تتشكل منها هيئة الناخبين الكبار، أوالمجمع الانتخابي الذي أرسل النتيجة الى مجلس الشيوخ ليقرّها في السادس من يناير/كانون الثاني ٢٠١٧ تمهيداً لتسلم ترامب مفاتيح البيت الأبيض من أوباما في العشرين من الشهر نفسه.
على مستوى الأصوات الشعبية، أي الاقتراع الشعبي العام، تفوقت هيلاري كلينتون ب 2,7 مليون صوت على خصمها الجمهوري، لكنها كانت سارعت إلى الإقرار بهزيمتها وتهنئته في الثالثة من صباح التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، أي حتى قبل الانتهاء من فرز الأصوات الشعبية، إذ كان هناك 6 ملايين بطاقة انتخابية لم يجر فرزها بعد. وقد فعلت لأنها تأكدت من أن ترامب حصل على أغلبية عدد الناخبين الكبار في المجمع الانتخابي. وليست هي المرة الأولى التي يحصل فيها مثل هذا الأمر ففي العام ٢٠٠٠ تغلب المرشح الديمقراطي آل غور على غريمه الجمهوري جورج بوش الابن بعدد الأصوات الشعبية (أكثر من ٥٠٠ ألف صوت)، لكن بوش استحوذ على الأغلبية في المجمع الانتخابي.
وهكذا يمكن القول إن الرئيس ترامب سيكون رئيساً قانونياً، بحسب الدستور الأمريكي، لكنه يفتقد الشرعية الشعبية الديمقراطية، إذا سلمنا بمبدأ الديمقراطية العددية. فالدستور الأمريكي كرس الانتخابات الرئاسية بالاقتراع غير المباشر، منذ ٢٢٥ سنة، مع اقتراع في كل ولاية يعطي ميزة للولايات الصغرى ديموغرافياً، في مقابل الولايات الكبرى منعاً لهيمنة هذه الأخيرة على نتيجة الاقتراع.

ويعود فوز ترامب تحديداً، الى تفوقه، ولو بعدد قليل من الأصوات، في ولايات بنسلفانيا وميشيغان ووسكنسن. وفي الفترة الفاصلة ما بين الاقتراع الشعبي واجتماع الهيئة الناخبة حدثت تظاهرات وطالبت جمعيات عدة بإعادة النظر في نتيجة الانتخاب، كما جرى توقيع العديد من العرائض التي ضمت ملايين اعترضوا على النتيجة، لاسيما في الولايات الثلاث المذكورة. لكن المشكلة سياسية أكثر منها قانونية. إحدى العرائض الموقعة من أساتذة في جامعة هارفارد طالبت بالعودة الى «روح هاملتون»، ذلك أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة اعتبروا أن المجمع الانتخابي، بحسب روح الدستور، هو «هيئة تشاورية» واجتماعها تداولي هدفه البحث في الخيار الشعبي واتخاذ القرار، إما بالذهاب في اتجاهه وإما معارضته. وقد نشرت «الواشنطن بوست»، في ٢٤ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، نداءً من البروفيسور لورانس ليسيغ، وهو من أساتذة علم السياسة المرموقين في هارفارد، يذهب في هذا الاتجاه.

العودة الى روح الآباء المؤسسين الأوائل هي في أساس الدعوات التي وجهت إلى الناخبين الكبار باحترام الأغلبية الشعبية الوطنية. وكان يكفي أن يلبي النداء ٣٩ من هؤلاء كي تفوز كلينتون. وقد تعرض بعض الناخبين الكبار إلى ضغوط كثيرة وصلت إلى حد التهديد بالقتل في بعض الحالات، لكنهم لم يخضعوا بذريعة أن الأمر يتطلب تعديلاً دستورياً كي يحصل لا بد من موافقة ثلاثة أرباع الولايات الفيدرالية.

وهذا أمر يستحيل حدوثه لأن نظام التوازن النسبي بين الولايات الكبرى والصغرى لناحية عدد الناخبين الكبار، يعطي ميزة لهذه الأخيرة لن تتخلى عنها، أي لن توافق على التعديل الدستوري المذكور. فالناخب في ولاية ويومينغ يؤثر في نتيجة الانتخاب أكثر بأربعة أضعاف ما يفعله الناخب في ميشيغان، والناخب في فيرمونت تأثيره الوطني في الانتخابات يفوق بثلاثة أضعاف وزن ساكن ميزوري. وهكذا فعلى الرغم من الهزيمة الشعبية للحزب الجمهوري في ستة من أصل سبعة انتخابات رئاسية أخيرة، فإن ثلاثة من مرشحيه أعلنوا فائزين ودخلوا البيت الأبيض. أنصار هذا الحزب ليسوا البتة جاهزين لتعديل الدستور.
وتبدو الأمور أكثر تعقيداً أيضاً من ناحية المشهد الحزبي. فالذهاب إلى الاقتراع الشعبي على المستوى الوطني يمكن له أن يقضي على الثنائية - الحزبية القائمة في الولايات المتحدة، لأن مرشحين عديدين سوف يتقدمون عندئذ لهذه الانتخابات التي سوف يفوز فيها من يحصل على الأغلبية الشعبية التي قد تتأرجح عندئذ حول 30 % تقريباً، كما تدل تجارب الدول التي تعتمد مثل هذا النظام الانتخابي، الأمر الذي يعيد طرح مسألة العلاقة ما بين الشرعية والقانونية، ولكن بطريقة مختلفة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"