ترامب ليس خائناً ولا متواطئاً

03:08 صباحا
قراءة 3 دقائق
جميل مطر

هذه ليست لحظة ضعف، أو تصحيح قناعة، أو تكفير عن ذنب، هي لحظة اجتهاد في التحليل، ومحاولة جديدة لتعميق الفهم. لم يستجد شيء، على كل حال، يجعلني أبدل موقفي من الرئيس دونالد ترامب. لم يستجد شيء يجعلني أصدق ما يقوله، وأطمئن إلى مستقبل بلدي في ظل وجوده، وأغير اقتناعي بأنه الرئيس الذي انحرف بأمريكا، فلن تعود كما كانت.
لن أنتظر مع ملايين تنتظر مثلي وثيقة يصدرها المحقق روبرت موللر، تؤكد وجود شبهة اتهام للرئيس دونالد ترامب، بأنه أتى أعمالاً تقع تحت طائلة مواد في القانون الأمريكي تتعلق بخيانة الوطن. أظن، وأنا هنا لا استبق الأحداث ولا أملك معلومات موثقة، أن أجهزة روسية ركزت جهودها على هذا الرجل قبل أن يعلن الحزب الجمهوري اختياره مرشحاً عنه لمنصب رئاسة الجمهورية الأمريكية. تابعت بالدقة الممكنة، كل كلمة نطق بها كاشفاً عن نواياه إن هو وصل إلى الحكم. قرأت الأجهزة الروسية مواقفه، ودرستها، واستمعت إلى آرائه وتحليلاته، واستفسرت عن ميول واتجاهات أصدقائه ومستشاريه من صناع الرأي، والفهم السياسي.
فعلت من ناحيتي، بمعاونة مساعدين أكفاء، ما تصورت أن الأجهزة الروسية فعلته. ليس بالتفصيل، ولا الدقة، ولا الشمولية، ولا اقتحام الخصوصية التي لا شك اتسم بها عمل الأجهزة الروسية، ولكن بانتقائية توفر التغطية الأمثل لقدر مناسب من المعلومات المتاحة. جمعنا، ثم قرأنا، وحلّلنا، وفي النهاية قررنا أننا لو كنا في مكان المسؤولين الروس لرفعنا توصية إلى الرئيس بوتين بأن نقدم لهذا المرشح كل ما نملك من قوى الدعم، مستترين وراء أحدث أساليب التدخل واختراق المجتمعات.
دأب ترامب، كمرشح ورئيس، على توجيه الانتقادات الحادة أحياناً، والساخرة، أو مشبعة بالإهانة، إلى السياسيين الأوروبيين، بل إلى معظم حلفائه.
هناك ما يقترب من إجماع الخبراء حول رأي يزعم أن الحلف الغربي دخل مرحلة الأزمة الحقيقية في مسيرة انحداره. أوروبا لم تشعر بانحسار دورها مثلما شعرت وهي تحت قيادة الرئيس ترامب.
وعد في وقت مبكر بالخروج من سوريا، ومن الشرق الأوسط كله، وأفغانستان. استثنى إيران لالتزامات عقدها مع شركاء يهود في مهنة العقارات وأصهار يهود في العائلة وقيادات مخلصة ل»إسرائيل» في الطائفة الإنجيلية التي سوف تصير قاعدة له في حكم البلاد. لم ينسق مع حلفاء أمريكا حول من يسد الفراغ في كل ساحة تخرج منها أمريكا. انتهى الأمر تخبطاً رهيباً في السياسة الخارجية في الشرق الأوسط، وكان للتخبط أثره في معنويات الحكم في معظم عواصم العرب، وحتى في «إسرائيل». فجأة، وجدت «إسرائيل» نفسها في موقع مسؤولية إقليمية لم يحلم به الصهاينة العظام، وعلى خط تعامل مباشر مع قوى عظمى، ودول إقليمية لها مصالح في الإقليم، بعضها متصادم جوهرياً مع مصالح الدولة اليهودية.
لم يحدث على امتداد العلاقة الروسية- الأمريكية أن اتهم رئيس أمريكي أجهزته الاستخباراتية بالسذاجة والجهل فيصيبها، وهي أحد أهم أذرعته في سباق أمريكا مع روسيا والآن مع الصين، بالضرر الكبير في معنوياتها، وفاعليتها.
أتحدث كثيراً مع خبراء في تحليل تطورات العلاقات بين الدول، خاصة ما تعلق منها بالشرق الأوسط. لا أبالغ وأنا أكشف عن انطباع مهم وسائد لدى عدد كبير منهم، يعتقدون أن الرئيس ترامب أساء إلى حلفاء أمريكا من العرب إساءات لا تغتفر.
أعود إلى حيث بدأت. لو أنني في مكان فلاديمير بوتين رئيساً للاتحاد الروسي أقرأ تقدير موقف أعدته أجهزة التحليل والتقدير في الكرملين عن شخصية رجل العقارات المرشح لرئاسة الجمهورية الأمريكية، وتوقعاتها بشأن أسلوب إدارته دفة الحكم والسياسة والاقتصاد، لكان قراري ادعموه بكل الوسائل الممكنة، حتى المحظور منها. ولو عادوا اليوم بتقرير جديد عن إنجازاتهم خلال عامين وأكثر، لطلبت منهم ومن كل أجهزة العمل الدبلوماسي والعسكري، الاستمرار في دعمه ضد خصومه في الداخل، كما في الخارج.
لقد حقق هذا الرجل لنا، من دون طلب منا، أو تكليف، إنجازات في سياساته الخارجية والداخلية، ما لم نحلم به منذ أيام لينين وستالين. أعاد إلى شعوب الجوار اللاتينية مشاعر تمردها ضد أساليب الجار الأبيض المهيمن والمستغل. أهان حلفاء أمريكا الأوروبيين، وأضعف حلف الأطلسي عدو روسيا اللدود، وشجع على تفكيك الاتحاد الأوروبي، وعزز الخلافات بين أعضائه. استهلك أرصدة هائلة لإشعال صراع مبكر مع الصين، وتحويل أنظار الصينيين بعيداً عن روسيا. تخلى لنا عن الشرق الأوسط من دون إطلاق رصاصة واحدة، أو إثارة العقبات في وجهنا، ولم يتبق لنا إلا أن نساعده ليتخلى بالسرعة المناسبة عن أفغانستان ثم عن آسيا برمتها. نعم، هذا الرجل لم يخن بلاده، ولم يتواطأ مع روسيا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"