تركيا والصين والتنمية بالدَّين

02:04 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. أيمن علي*

تتركز كل الأنظار على تركيا وماذا ستفعل قيادتها لتفادي أن تكون شرارة انفجار سوق السندات العالمي وانهيار قطاع الائتمان ودخول الاقتصاد العالمي في كساد أكيد، وليس في ركود كما حدث في الأزمة المالية السابقة.
تكاد أغلبية الاقتصاديين والمحللين تُجمع على أن ما يجري في تركيا قد لا يقتصر على تركيا فقط، بل سيكون له أثره على الاقتصاد العالمي ككل أو على الأقل اقتصاد الدول الصاعدة ربما في غضون أشهر. ويدلل هؤلاء على ذلك بإشارة من ألمانيا بأنها قد تفكر في المساعدة على إنقاذ تركيا مالياً، بغض النظر عن الخلاف السياسي مع رئيسها رجب طيب أردوغان، إذا وصلت الأوضاع لاحتمال الانهيار.
ولن يكون هدف ألمانيا ما يعلن في التصريحات الرسمية عن «الحيلولة دون انهيار دولة عضو في حلف الناتو» وإنما الحقيقة هي الخوف من امتداد الأزمة التركية إلى دول في الاتحاد الأوروبي ستضطر ألمانيا وقتها إلى تحمل العبء الأكبر في إنقاذها. وعين الأسواق هنا على إيطاليا، ليس لأن إيطاليا منكشفة على الوضع في تركيا (فليست هناك قروض واستثمارات لها في تركيا مثل ما لإسبانيا مثلاً) ولكن لأن إيطاليا تعاني من مشاكل عجز ودين هائل يجعلها في وضع هش في حال تدهور سريع لأسواق الائتمان والسندات نتيجة أزمة تركيا.
وكما سبق وأوضحنا هنا، فلا أحد يبلع الادعاءات السياسية التركية عن «حرب اقتصادية على أنقرة» ولا حتى تشبيه أزمة انهيار الليرة بأزمة النمور الآسيوية نهاية القرن الماضي. صحيح أن الخلاف السياسي بين أنقرة وواشنطن، والتصريحات العنترية لكل من أردوغان وتغريدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لها تأثير (نفسي على الأقل) على الأسواق لكنها ليست سبباً في أزمة تركيا الحقيقية التي تعود إلى ما قبل نحو خمس سنوات على الأقل. ربما يكون انهيار سعر صرف الليرة شرارة أزمة تتفاعل، لكن حتى مع تقلب سعرها ارتفاعاً وانخفاضاً لن تتوقف عملية بدأت وتحتاج إلى حل جذري يتجاوز تركيا وسياسات حكومتها. فسياسياً، معروف عن أردوغان أنه سرعان ما يتراجع عن تهديداته ويفعل عكسها لكن هدوء التوتر مع واشنطن واعتماد سياسات نقدية تقليدية قد لا يكون كافياً الآن لمواجهة عوامل الأزمة التي بدأت وبالتالي يبقى الحذر العالمي شديداً وتبقى التكهنات ساخنة بما يمكن أن يحدث مع انتقال شرارة الأزمة خارج تركيا. ولا يقتصر الأمر هنا على أوروبا وانكشاف القطاع المصرفي لبعض دولها على ديون البنوك التركية وإنما يهدد في الواقع باحتمال انفجار فقاعة سوق السندات العالمي وتبخر تريليونات الدولارات ما قد يعني الدخول في أزمة تتجاوز الأزمة المالية العالمية قبل عشر سنوات.
ومع الاهتمام الإعلامي بالولايات المتحدة وأوروبا، على خلفية رسوم التجارة وعقاب واشنطن لأردوغان وانكشاف دول أوروبية على ديون القطاع المصرفي التركي، ينسى البعض حقيقة أن آسيا ربما كانت الشريك الأكبر لتركيا تجارياً وتحتل الصين موقعاً رئيسياً في قائمة شركاء تركيا التجاريين (بنسبة تتجاوز 40 في المئة). صحيح أن هناك مشكلة مدفوعات ديون (فوائد وأقساط) مستحقة على تركيا ارتفعت مؤخراً مع فقدان الليرة ثلث قيمتها (من نحو 90 ملياراً إلى ما يقارب 120 مليار دولار)، ويرجح أن يحصل ما هو مستحق على تركيا دفعه من فوائد وأقساط على ديونها العام المقبل إلى 200 مليار دولار، وصحيح أن عجز الميزانية التركية وبقية مؤشرات الاقتصاد الكلي سلبية (تضخم يقترب من 20 في المئة بنهاية العام وبطالة فوق 10 في المئة) لكن تظل المشكلة هي في طريقة الحكومة في معالجة الوضع. فمنذ نحو عقد من الزمن تعتمد السياسة الاقتصادية على دفع عجلة النمو بالدين حتى وصل حجم الدين الخارجي لتركيا بالعملة الأجنبية إلى نصف تريليون دولار. كما أن الدين الداخلي (نتيجة انخفاض أسعار الفائدة) الهائل مول الإنفاق الاستهلاكي للأتراك الذي يشكل نحو 70 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وهكذا تضاعف معدل النمو مثلاً من أكثر قليلاً من 3 في المئة عام 2016 إلى نحو 7 في المئة العام الماضي.
هذا النموذج، النمو المعتمد على الاقتراض، أكثر وضوحاً في الصين (التي يحقق اقتصادها نمواً يفوق 6 في المئة سنويا) مع فارق أساسي وهو قدرة الصين على التعامل مع حجم الائتمان الهائل نتيجة عدم حاجتها للاقتراض من الخارج وبالتالي ليست لديها مشكلة انكشاف هائل على السوق المالي العالمي في هذا الجانب مثل تركيا. وحين كتبت في هذه الزاوية قبل عامين عن فقاعة ديون عالمية (مع وصول الدين العالمي إلى 25 تريليون دولار) كان الأرجح أن الفقاعة ربما تنفجر من الصين. إلا أن قدرة الصين على (ثاني أكبر اقتصاد في العالم الآن) على التعامل مع مشكلة الائتمان وتهدئة الغليان في سوق العقارات والمغالاة في تضخم قيمة الأصول مكنها حتى الآن على الأقل من تفادي أزمة تهدد سوق الائتمان العالمي كله. ومع بدء التنبيه لغليان سوق السندات منذ نحو عامين، كانت الأنظار كلها تتجه إلى الصين التي بها أكثر من تريليوني دولار من الديون الورقية (سندات) وكان ذلك حتى قبل وصول العائد سندات الخزانة الأمريكية لمدة 10 سنوات إلى 3 في المئة (وهو حاجز الخطر في سوق السندات العالمي).
إنما الآن، تتركز كل الأنظار على تركيا وماذا ستفعل قيادتها لتفادي أن تكون شرارة انفجار سوق السندات العالمي وانهيار قطاع الائتمان ودخول الاقتصاد العالمي في كساد أكيد، وليس في ركود كما حدث في الأزمة المالية السابقة.
ومع الخيارات المحدودة أمام تركيا، يرجح البعض أن ما تراكم في الاقتصاد التركي من تشوه على مدى نحو عقد ونصف العقد بدأ بالتفاعل بما يصعب إيقافه. وحتى إذا لجأت تركيا بنهاية العام إلى صندوق النقد الدولي (الذي لجأت إليه 18 مرة من قبل) فقد يكون الأوان قد فات على حصر شرارة الأزمة في تركيا وعدم انسكابها على الخارج.

*كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"