تريم عمران في ذكرى رحيله السادسة

13:29 مساء
قراءة 3 دقائق
الناس، صغيرهم وكبيرهم، شبابهم وشيبهم، أدناهم منزلة وأعلاهم مقاماً، يرحلون عن هذه الدنيا عندما يأتي يومهم المحتوم، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، والأيام تحطمنا بآلاتها الفنائية المدمرة، وتهشمنا كما تتهشم القوارير الزجاجية عندما ترتطم بمادة صلبة.

تحطمنا الأيام حتى كأننا زجاج

ولكن لا يُعاد لنا سبك

ومادام هذا هو الحال والمآل، والمصير واقع لا محالة. إذن، الموت حق، وهو لا ريب فيه، طال بنا المُقام في الحياة أم قصُر.

ولكن المشاهد الحيّ وهو يرى في كل آونة وأمام عينيه الفجيعة في عزيز أو قريب، يعتوره الألم ويعصر فؤاده الحزن، ويود لو أخطأ السهم أو انحرف ولم يصب الغالين، وأبقى عليهم باعتبار الغالين مصدراً للخير ونبعاً لمعينه، وبوجودهم نحس بقيمة الحياة، ونقول: إن الدنيا بخير.

كان تريم عمران أحد هؤلاء الغالين، بل هو أوّلهم، ولأنه في المقدمة، كانت رزية فقده كبيرة، وذات تأثير كبير في المجتمع الإماراتي بشكل عام.

لعمرك ما الرزية فقدُ مال

ولا فرس يموت ولا بعير

ولكن الرزية فقدُ حر

يموت لموته خلق كثير

نعم، أحياناً يتسبب موت فرد واحد من الناس في موت العديد من الأفراد. والموت الذي يعنيه الشاعر، والذي يأتي نتيجة رحيل عالي المقام، هو الموت المعنوي وليس الموت الجسدي، الموت المعنوي الذي يصيب أحد السُراة من العديد... وكان تريم عمران سرياً (1) من هؤلاء السراة، من الذين يضنينا البحث في العثور على أمثالهم.

كان تريم سريّاً في تركيبته الأخلاقية، وفي سيرته الذاتية العامة، وكان معلم جيل، ينشر الفكر النيّر والرأي النيّر، وسيلته في ذلك الكلام المفيد والكتابة المفيدة والنشر المفيد... وكان أكثر الناس ابتعاداً عن الهذربان (2) السياسي المُعاد والمجترّ الذي نسمعه من المنظّرين صباح مساء. وكان مستمعاً جيداً حتى للهذربان، ولكنه عندما كان يعلّق ويفند، يتوارى المهذربون خلف ستار من الخذلان.

كان العمل السياسي في الإمارات قبل أن يصبح تريم عمران رئيساً للمجلس الوطني الاتحادي، وقبل أن يُنشئ تريم مؤسسته الإعلامية، الشروق ثمّ دار الخليج، عملاً عشوائي المنهج واللغة، والكثير ممن أقحموا أنفسهم في المعمعات السياسية، كانوا مروجين للكلام مستورد الخامة بلا أصالة، ولكن تريم وضع للنهج السياسي تنظيمه النابع من المصلحة الوطنية، وبذلك يُعد تريم واضع النهج الواضح الذي يمكن أن يُبنى عليه الخط السياسي في تاريخ الإمارات، وهذا الخط هو الخط الليبرالي، في الإطار الذي يأخذ مصلحة الوطن والهوية الوطنية، ويضعهما ضمن التجمع العربي القومي، المبني على الرؤية الحضارية والمبادئ الحضارية وليست الشوفينية (3) والإكسونوفية (4).

ومن يرجع إلى أحاديث تريم عمران في الصحافة، ومن على منابر الجامعة العربية والمجلس الوطني الاتحادي، والأمم المتحدة وغيرها من المحافل الدولية، يجد أمامه نموذجاً من الشخصية التي جمعت بين الفهم العميق للسياسة وبين الطرح الموضوعي والمنطقي لها. وكانت ممارساته السياسية بعيدة عن المصلحة الشخصية والمزايدات، وغير متأثرة بمغرياتها المادية... كما يجد الدارس لحياة تريم، أن شخصيته الإنسانية وأحاسيسه الإنسانية كانت هي الغالبة على كل اتجاه يتجهه وعلى كل منهج يتبعه.

ومن هنا، ولأني أحد من عرف تريم عن كثب، تساورني في كثير من الأحيان، وعندما أرى الخطوب تكشّر عن أنيابها، أحاسيس بالتساؤل، وأقول: رحمك الله يا أبا نجلاء، لقد رحلت عنا وأنت في قمة عطائك لنا، ولهذا البلد الذي كان حبه يملأ كل وجدانك، وإن ما كنت تقوله وتؤمن به، كان إيماناً حقيقياً وليس مزايدة وتجارة في البازار السياسي.

هوامش

(1) السري من السراة، شريف القوم وعالي المقام..

(2) الهذربان: الهذر واللغط من الكلام / راجع قواميس اللغة، حرف الهاء، والمعنى نفسه في اللهجة المحلية...

(3) الشوفينية: التعصب الوطني واعتبار القرابة النسبية فوق الآخر

(4) الإكسونوفية (Xenophobia): كره مرضي للأجانب

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"