تطرف أكثر وآخر أقل

03:39 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

يستهلك «الإسرائيليون» زعماء من بينهم، يتقادم عليهم العهد أو يرتكبون أخطاء جسيمة، فتتم تنحيتهم عبر صناديق الاقتراع، أو بقرار قضائي (رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت، ورئيس الدولة موشي كاتساف.. على سبيل المثال) ثم يُنتجون زعامات جديدة، تتصدر المشهد، وتبني على ما سبق، وتواصل تعظيم الكيان الصهيوني على مستويات عدة، لا تقتصر على المستوى العسكري، فيما تتراجع فرص التحدي والمغالبة لدى الجانب الفلسطيني والعربي.
يقول المرء ذلك بمناسبة الانتخابات التشريعية، وهي الثانية في غضون خمسة أشهر، والتي رفعت حظوظ حزب جديد هو حزب أزرق/أبيض. أو «مناعة لإسرائيل»، هذا الحزب مضى على إنشائه عام واحد، أو أقل من ذلك، ومع ذلك ينجح في تثبيت أقدامه، إذ يقوده جنرال عسكري متقاعد هو بيني جانيتس، الذي أمضى الشطر الأعظم من حياته في السلك العسكري. وقد تقدم هذا الحزب على منافسه تكتل الليكود بمقعدين، وهو ما لم يصدقه ويستوعبه بنيامين نتنياهو، الذي استمرأ الحكم والأضواء. إذ قاد أربع حكومات ويُمنّي النفس بخامسة. غير أن اتهامات بالفساد تلاحقه، مما أضعف من مركزه لدى الجمهور، علاوة على اتساع رقعة اليمين المتطرف، وزيادة عدد ممثليه وأحزابه، مما سلب بعضاً من رصيد نتنياهو والليكود.
يبرع العسكريون المتقاعدون عندهم في دخول حلبة السياسة، ومن باب «الاعتدال النسبي». والجمهور يمنحهم الثقة، إذ إن سجلهم العسكري يزكّي مواقفهم. هكذا كان حال إسحق رابين مثلاً. ويختلف الزعيم الجديد في حقيقة الأمر، كونه أقل تطرفاً، وليس لكونه معتدلاً، كما تشيع الماكنة الإعلامية والانتخابية. فجانيتس مع ضم الجولان المحتل، ومع دوام الاستيلاء على القدس الشرقية، ومع تعزيز الكتل الاستيطانية الكبيرة. وحتى مع ضم غور الأردن، لكنه يترك الباب موارباً أمام استئناف المسيرة السلمية. خلافاً لنتنياهو الذي لا يتحدث إلا عن الضم، وعن دوام الاستيلاء على كامل الضفة الغربية.
ورغم تقدمه في عدد المقاعد، فإن حزب أزرق/أبيض لا يجد الطريق أمامه ممهدة لتشكيل حكومة جديدة ذات ائتلاف واسع كما يجهر بذلك، إذ إن فرص المناورة أكبر أمام الليكود لاجتذاب أحزاب اليمين المتطرف وضمان تشكل حكومة تحظى بثقة 61 نائباً في الكنيست. غير أن شروطاً متقابلة من الأحزاب تصعّب هذه المهمة. هكذا تدور لعبة الكراسي. وقد بات التمثيل العربي يشكل كتلة وازنة ب 13 مقعداً، وترتيبها الثالث، وبينما تميل هذه الكتلة لحرمان نتنياهو من تشكيل حكومة برئاسته، إلا أن هذه الكتلة تضع شروطاً سياسية على الطرف الآخر، من أجل منح الثقة. تتعلق بمنح حقوق متساوية لفلسطينيي 48، وإطلاق المسيرة السلمية على أساس حل الدولتين. والراجح أن هذه الكتلة التي تمثل أربعة أحزاب عربية سوف تبقى في موقع المعارضة لأية حكومة، وذلك لاتساع الهوة في المواقف حتى مع من يوصفون بالمعتدلين أو تكتلات الوسط. وتمارس في الوقت ذاته تأثيرها في التصويت على مشاريع القوانين. واتخاذ الكنيست منبراً للجهر بمواقف عربية قومية مناوئة في جوهرها للحركة الصهيونية..
وسوف يستمر الانشغال بتشكيل حكومة لثلاثة أشهر، إلا إذا حدث اختراق مفاجئ سريع، ومعه وبعده الانشغال بما إذا كانت حكومة أخرى تحمل جديداً حقاً، وما إذا كان نتنياهو سيحال إلى القضاء (كان يسعى وما زال إلى استصدار قانون يمنح الحصانة لمن يتولى رئاسة الحكومة، وهو ما يدل على تشككه بسلامة وضعه). وإلى أن تتشكل الحكومة سيبقى نتنياهو رئيساً لحكومة تصريف أعمال. فيما الإدارة الأمريكية خلال ذلك في حيرة من أمرها حول التوقيت المناسب لإعلان صفقة الرئيس دونالد ترامب، وقد حل المبعوث المستقيل جينسون جرينبلات في تل أبيب أواخر الأسبوع الماضي لاستكشاف التوقيت الملائم لإعلان الخطة، وذلك بعد أن تورطت الإدارة في ربط إعلان الصفقة بمجريات الانتخابات الأولى والثانية، ومحاولات تشكيل حكومة في المرتين. هذا علاوة على التورط الأصلي في محاباة الاحتلال لدى صياغة الخطة، وبصورة لا سابق لها في تاريخ العلاقات «الإسرائيلية»- الأمريكية.
وبهذا فإن جزءاً من واقع منطقتنا ومستقبلها سوف يظل وإلى إشعار آخر رهينة للتقلبات «الإسرائيلية»، كما تتحول الإدارة في واشنطن إلى رهينة للابتزاز «الإسرائيلي» المتعاظم، وفي المضمون فإن مسار التطرف «الإسرائيلي» يأخذ منحى تصاعدياً، ويسمم الأجواء، ويبدد الجهود التي بذلها المجتمع الدولي على مدار ستة عقود للتوصل إلى تسوية، مما يضع العالم، وفي ضوء التطورات الأخيرة التي أسفرت عنها الانتخابات، بين خيارين متطرفين؛ أحدها أكثر وأحدهما الآخر أقل في الدرجة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"