توزيع القوة في النظام الدولي

03:00 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

من المعلوم أن أي نظام ينشأ، ويتمأسس كيانه، وترسم له قواعد الاشتغال، يظل يحمل فيه مواريث التكوين، ويعبر عنها بوصفها سماته، حتى إن طرأت عليه تبدلات عميقة غيرت من مكانة المواريث تلك، ومن أدوارها، وفرضت الحاجة إلى إجراء تعديلات فيه تناسب نوع التغييرات التي طرأت عليه، وتستوعب الحقائق الجديدة التي تنشأ في مساره. ومن المعلوم أن انقفاله على نفسه، في ضوء تحولاته، حال سلبية للغاية يقع فيها ذلك النظام، وربما تكون مسؤولة عن الكثير مما يعتور نظام اشتغاله من أزمات. وقد كانت المخافة من تكلس النظام، واتساع نطاق الشرح بين طبيعة التكوين فيه، وما صار عليه كيانه من تطور وتغير، هي ما أسس - في تجارب الدول والأنظمة السياسية الحديثة - لفكرة الحاجة إلى تعهد الأنظمة السياسية بالإصلاح، وإعادة التأهيل والتطوير، بما يناسب حقائق التغير والتحول. ويدخل في جملة ذلك إجراءات من قبيل تعديل الدساتير ومراجعة منظومة التشريعات والقوانين، وإحداث أخرى جديدة، وتعديل قوانين الانتخابات، ومراجعة توزيع الصلاحيات والسلطات بين الأجهزة المختلفة..إلخ؛ وكل ذلك قصد تحسين أداء النظام.
هذا، بالذات، ما ينقص النظام الدولي الراهن، ويشكل موطن خلل فيه، ومبعثاً على ثلبه؛ فقد ظل، منذ ميلاده قبل ثلاثة أرباع القرن، منغلقاً على القواعد التي قام عليها، ومعززاً لنفوذ القوى التي صنعته وفرضت شروطها فيه، على الرغم من أن القواعد والقوى تلك ثمرة حقبة من تطور العالم لم تعد لحقائقها السابقة التأثيرات عينها في عالم اليوم، إلا في نطاقات محدودة. وإذا كان من تغيير ذاتي أنجزه، فلعله استثمار قسم منه (هو معسكر الغرب) نكبة قسم ثان (معسكرا الشرق والجنوب)، بمناسبة انهيار الاتحاد السوڤييتي، لوراثة نفوذه والسيطرة على القرار الدولي. ولم يكن ذلك بالتغيير بقدر ما كان انقلاباً؛ لأن من مقتضيات التغيير والتعديل أن يقع ذلك بالتوافق بين أعضاء النظام على النحو الذي يرضى فيه الجميع - أو الأغلبية - بما وقع التراضي عليه من قواعد عمل جديدة.
مشكلة النظام الدولي الراهن هي عينها مشكلة تكوينه أو، قل، متولدة من طبيعة ذلك التكوين. هذه واحدة؛ الثانية هي أنه لم يبذل جهداً في حل أزماته الذاتية الناشئة من أن التكوين ذاك لم يعد يناسب مجمل التحولات الكبرى التي شهد عليها التوازن بين قواه منذ ذلك الحين الذي تكون فيه. وبيان تينك المسألتين أن النظام الدولي هذا - المتكون عقب نهاية الحرب العالمية الثانية - هو، بالتعريف، نظام المنتصرين في الحرب. وربما كان هؤلاء هم الأقوى في حينه (مع بعض التجاوز)، فكانت قوتهم تلك تسوّغ لهم أن يفصّلوا هيكله على مقاسها، وعلى مقاس مصالحهم. غير أن توزيع القوة (العسكرية، والاقتصادية، والعلمية، والتقانية...) تغير في العالم، بعد عقود قليلة من التكوين، فلم يعد المنتصرون في الحرب جميعاً هم الأقوى في النظام الدولي (بل بعضهم فحسب)، وإنما نشأت قوى وأقطاب جدد جاوزتهم في الوزن والقوة، ومع ذلك بقي النظام هو هو لم يبرح قواعده التقليدية التي قام عليها في النشأة، ولا أعاد النظر في هيكليته، ولا حتى أتى عليها ببعض التعديل الذي ستدخل فيه معطيات وحقائق جديدة تحسنه، وتصوب أداءه، ربطاً بمشكلة تكوين النظام، كنظام المنتصرين في الحرب، ونتيجة مباشرة لها تولدت مشكلة ثانية لم يتحرر منها النظام إياه حتى اليوم؛ هي مشكلة مركزة السلطة في أيدى الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن.
ربما كانت دول بعينها، مثل بريطانيا وفرنسا، في حكم الدول العظمى حين قام النظام الدولي، فكان ذلك ما يبرر تمكينها من سلطة القرار فيه، إلى جانب الأمريكيين والسوڤييت الذين حرروا أوروبا من النازية. وربما كانت اليابان وألمانيا دونهما قوة لأنهما هزمتا في الحرب - وإن لم تكن لفرنسا وبريطانيا يد في هزيمتهما - فكان ذلك سبباً لاستثنائهما من العضوية في مجلس الأمن، بل لمعاقبتهما بتدميرهما، وتجريدهما من السلاح. ولكن هل الصورة، اليوم، هي ما كانته أمس؟ أين بريطانيا وفرنسا، اليوم، من اليابان وألمانيا؛ مع أنهما تشاركان في التحكم في القرار الدولي، فيما الأخيرتان خارج العضوية الدائمة، وتحتلان المركزين الثالث والرابع، في ترتيب القوى الدولية، بعد الولايات المتحدة والصين؟ ثمة إجحاف شديد في هذا النظام المغلق على عناصر التكوين والمجافي لحقائق التطور.
في الأثناء، نشأت أقطاب جديدة من عالم الجنوب من دون أن يكون لهم المكان اللائق في هذا النظام لا تجد لها موقعاً مع الكبار مع أنها تبدي من التفوق الاقتصادي ما ستتخطى به القوى الاقتصادية الغربية نفسها. هكذا نلفي أنفسنا، مع تهميش هذه القوى الجنوبية، مجدداً أمام حقيقة اللاعدالة في توزيع الحصص في نظام دولي مأزوم، ما زال يحتكره من أقامه قبل ثلاثة أرباع القرن.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"