جذور شرق أوسطية للإرهاب الأوروبي

05:31 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

راجت مؤخراً في فرنسا أطروحة تقول بأن الإرهاب الذي ضرب هذا البلد في بداية العام الماضي (شارلي-ايبدو) ثم في ١٣ نوفمبر/‏تشرين الثاني المنصرم، وما بينهما، من أسبابه فشل نموذج الاندماج الفرانكوفوني، بدليل أن الخلايا الإرهابية جاءت من عند الجار البلجيكي، وتحديداً بروكسل الفرانكوفونية. وكانت هناك ردود على هذه الأطروحة في نقاش لا يزال مستمراً على مستوى المثقفين والمحللين.
في سوريا اختفى قسم كبير من المجتمع بكل بساطة. فالحرب قتلت أكثر من ٢٠٠ ألف إنسان وشردت الملايين الذين باتوا يهددون الاستقرار في الدول المجاورة، وصولاً إلى أوروبا.
في العراق لا يختلف الوضع كثيراً إذا أخذنا بالاعتبار ما يتعرض له بلد الرافدين منذ أكثر من عشرين عاماً جراء الحصار الدولي الذي أوقع ملايين الضحايا ، دون أن ننسى الإرهاب «الداعشي» المقيت.
وفي غزة أيضاً أوقعت الحروب «الإسرائيلية» الأخيرة آلاف الضحايا وحوالي ١٠٠ ألف مشرد منذ الصيف الماضي في بقعة صغيرة يحتشد فيها حوالي ١,٦ مليون نسمة.
هذه المآسي تنشر بين ضحاياها مشاعر الإهانة والألم وفقدان الأمل والحرمان والحقد، والتي يمكن أن تغذي كل أشكال التطرف والراديكالية. وهذا الثقب الأسود يجذب آلاف الشبان الآتين من بقاع العالم الأربع على خلفية إيديولوجية دينية متطرفة. في أوروبا يشكل الشباب المسلم، الذي يشعر بالتهميش والحرمان وغموض المستقبل، هدفاً سهلاً لـ«داعش» في سعيه لتجنيد الإرهابيين.
لكن السياسات الأوروبية تواجه هذا الواقع الأليم بتقوية أجهزتها الأمنية الأكثر فالأكثر تطوراً، وتحشر نفسها في زمنية ضيقة مرتبطة بردود فعل الرأي العام وإيقاع الحوادث في اتحاد أوروبي بات يمارس ردود الفعل وليس الفعل نفسه منغلقاً على نفسه ومتناسياً العالم الذي يحيط به.
حول سوريا ترددت دول الاتحاد الكبرى ولم تتحرك لأنها سارت وراء الرئيس أوباما الذي قرر ببساطة ألا يفعل شيئاً، ولأنها خشيت من أن تسليح المعارضة قد يوقع هذا السلاح في أيدي الجماعات المتطرفة.
في العراق الذي حل الأمريكيون جيشه وفككوا دولته بعد غزوهم له في مارس/‏آذار ٢٠٠٣ نشبت حرب أهلية مصحوبة بإرهاب وتفجيرات، لا تزال مستمرة إلى اليوم بأشكال وطرائق متنوعة، وقد وقع ضحيتها مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمشردين. فبعد ثلاث عشرة سنة لا تزال الأوضاع على تدهورها مع بزوغ تنظيم «داعش» واحتلاله لمساحات شاسعة من البلد حوّلها إلى سجن كبير يمارس فيه أبشع أشكال القتل والتعذيب والإرهاب.
أمام هذا المشهد المريع تم نسيان الصراع الفلسطيني-«الإسرائيلي» رغم أن كثافته السياسية والرمزية تبقى أكثر من عالية. وبسبب الكيل بمكيالين في الغرب فإن الحكومة «الإسرائيلية» تشعر بأن يدها طليقة في فعل ما تشاء من قتل واعتقال وتهويد وبناء المزيد من المستوطنات. وكدليل جديد على شعورها بالقوة الفائضة وحرية الفعل اجتمعت الحكومة «الإسرائيلية» مؤخراً في الجولان المحتل وأعلن رئيسها نتنياهو بأن هذه الهضبة ستبقى ««أرضاً «إسرائيلية»» إلى الأبد، منهياً بذلك أي إمكانية للتفاوض حولها في أية تسوية مستقبلية محتملية. ومجدداً لم تحرك أوروبا والولايات المتحدة إزاء ذلك ساكناً.
لا تعيش المجتمعات في الشرق الأوسط مجرد أزمة إضافية هذه المرة، بل قطيعة تاريخية سيكون معها الغد مختلفاً عما كان عليه الأمس. اتساع هذه القطيعة شبيه بما حدث بعد انهيار الامبراطورية العثمانية مع احتمال إعادة رسم لخرائط دول قائمة وظهور دول جديدة. ففي عشرينيات القرن المنصرم فرضت بريطانيا وفرنسا سايكس-بيكو وجاءت الحكومات السلطوية لتعطي الوهم بالاستقرار وتغطي على التناقضات الاجتماعية وإخفاقات البناء المواطني والوطني. واليوم نحن نشهد عودة للتاريخ، فالأسئلة التي أردنا تجنبها تعود بقوة مميتة عبر عنف متراكم منذ وقت طويل. ربما علينا أن نأمل بأن تخدم دروس الماضي في إعادة البناء المقبلة. ولكن أمام أوروبا، أكثر من الولايات المتحدة، دور ينبغي أن تلعبه في إعادة الاستقرار والعدالة إلى المنطقة، أولاً لأن مسؤوليتها التاريخية أكيدة فيما يجري اليوم، ومسؤوليتها الراهنة كبيرة أقله بسبب انجرارها وراء الولايات المتحدة التي لا تنظر إلى الأمور إلا من زاوية المصلحة «الإسرائيلية»، وأخيراً لأن الأسوار الأوروبية مهما كانت عالية لن تحميها من شظايا الانفجارات في جوارها العربي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"