حتى لا تُطلّ برأسها من جديد

03:43 صباحا
قراءة 5 دقائق

إنها الفتنة التي تحاول أن تضرب الوطن في مقتل بزرع الفرقة بين أبنائه مسلمين ومسيحيين، أقول ذلك ولديّ إحساس بأن حادث ماسبيرو سوف يكون آخر الأحداث الطائفية المفجعة في بلادنا، ذلك أن حجم الألم كان كبيرًا والشعور به عميقاً، كما أنني أظن أن الرسالة قد وصلت إلى قلب كل مصري وعقله في ذات الوقت، بحيث أدرك الجميع أننا نعيش في قارب واحد وسط أمواج عاتية فإذا اختلفنا داخله انقلب القارب بمن فيه، ولن تستثني نار الفتنة جماعة أو طائفة فالكل أمامها سواء! وقد أمضيت الأربعين عاماً الماضية معنياً بقضايا المسيحيين في الشرق الأوسط مع تركيز طبيعي على الأقباط أكبر تجمع سكاني مسيحي عربي على أرض مصر الطيبة، ملتقى الثقافات وبوتقة الحضارات وموئل الديانات، فإنني أسجل اليوم خلاصةً لبعض ما استقرّ في ضميري الوطني والأكاديمي معاً وأوجز ذلك في النقاط الآتية:

* أولاً: إن تعبير قبطي له دلالة ثقافية وتاريخية، قبل أن تكون دلالة دينية، فهو يرتبط بحقبة تشير إلى العصر المسيحي عندما كان المصريون في أغلبهم يدينون بالمسيحية الأولى، باستثناء أقلية يهودية في غرب الدلتا وبعض مناطق ساحل المتوسط، وبذلك فإن على كل مصري ومصرية أن يدرك جيدًا أنه من نتاج الحقبة المسيحية أيضاً ما دامت جذوره مصرية، ولنتذكر أن جيش الفتح الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص كان قوامه أربعة آلاف جندي بينما كان عدد سكان مصر آنذاك يزيد على ستة ملايين نسمة، حسب أدق المصادر التاريخية، وهو ما يعني أننا جميعاً خرجنا من تلك الحقبة بأصول مصرية متساوية، وبقي بعضنا على مسيحيته فارتبط اسمه دائماً بتلك الحقبة من تاريخنا وصرنا نسميهم بالأقباط، بينما الأدق هو المسيحيون المصريون، وظل باب الإسلام مفتوحاً للتحول نحو الدين الجديد على امتداد قرنين كاملين حتى تمكنت الدولة الفاطمية من سدة الحكم فدخل الأغلب الأعم من المصريين في الإسلام الحنيف، وأصبحت مصر دولة ذات أغلبية مسلمة، ثم اكتملت عروبتها حينما بدأت الصلوات في الكنيسة الأرثوذكسية المصرية تتم في مجملها باللغة العربية . وهكذا فإن النشأة الحقيقية للاختلاف الديني في مصر بين مسلمين ومسيحيين لم تخرج بهما إطلاقاً عن حدود النسيج السكاني الواحد، ولذلك فإنه يتعيّن على كل مصري مسلم أن يدرك أن من نسميهم بالأقباط إنما يمثلون أصوله البشرية والوطنية على نحوٍ لا يقبل الشكّ أو التشكيك بأي حال .

* ثانياً: لا توجد دماء نقية لشعب معين أو جنس بذاته، ذلك أنه لا يوجد مختبر علمي لتحليل الدماء النقية وتحديد أنواع الأصول البشرية، فتلك نظرةٌ نازية هتلرية دعت إلى تمييز الجنس الآري دون سواه، لذلك فإن الخلط المتعمّد بين العناصر العربية الوافدة إلى مصر مع دخول الإسلام والأغلبية المسلمة في مصر بعد ذلك، هو عبثٌ تاريخي وتزييف للحقيقة، لأن الوافدين كانوا بالآلاف وقد ذابوا في أتون الأصول المصرية الثابتة وهي بالملايين! لذلك لا يمكننا التفرقة بين مسلم ومسيحي في مصر بسبب دعاوى عرقية أو دينية تمس وطنية طرف دون آخر، أو تعطي لأحدهما ميزة تاريخية على سواه .

* ثالثاً: إن حقيقة التعايش المشترك بين المسلمين والمسيحيين بل واليهود أيضاً، هي رصيدٌ تاريخي لمصر التي لاتزال عاصمتها تضم ستة معابد يهودية لم يمسسها سوء، فما بالنا بكنائس (من هم أقرب مودة)، وهم أيضاً (الذين لا يستكبرون)، لذلك فإن بناء الكنائس إلى جانب المساجد هو دليل على رسوخ الشعور الدفين بالأخوة الحقيقية والاندماج الكامل الذي لم يتأثر بحروب الفرنجة (المسماة خطأ بالحروب الصليبية)، ولم يتأثر أيضاً بالفيلق القبطي الذي شكله الجنرال يعقوب أثناء الحملة الفرنسية! ولا محاولات كرومر وجورست أثناء الاحتلال البريطاني، فقد ظل النسيج المصري متماسكاً عبر القرون لا تنال منه العواصف العاتية، ولا تمزقه الأحداث الطارئة أو تؤثر فيه الظروف العارضة .

* رابعاً: إنني مشفق على رئيس مصر القادم سواء جاء عسكرياً أو ليبرالياً أو سلفياً أو من جماعة الإخوان المسلمين أو غيرها، إنني أشفق عليه إذا لم يدرك عن يقين أن الشأن القبطي أمانة في عنقه سوف يُسأل عنها أمام الله والوطن، فالمواطنة الحقيقية تلغي الفروق بين المختلفين عقيدة وطبقة وجنساً، فهذا مسيحي وذلك مسلم، وهذا غني وذاك فقير، وهذا رجل وتلك امرأة ولكنهم جميعاً متساوون في المراكز القانونية والحقوق السياسية، إنها مسؤولية مشتركة نحملها جميعاً في ظرف صعب ووقت عصيب، لذلك فإن التدقيق في من يقود السفينة لا بد أن يضع في اعتباره ضرورة الإيمان المطلق بالتعايش المشترك بين المصريين جميعاً بلا تفرقة أو استثناء، بلا تمييز أو إقصاء، بلا تهميشٍ أو استبعاد .

* خامساً: يجب أن يعي المصريون جميعاً أنه لا توجد ضغينة تاريخية متجذرة تدعو إلى الفتنة الطائفية التي نطالب بتغليظ العقوبة على كل من يوقظها أو يشارك فيها، أو يساعد عليها مدركين أن قانون تنظيم دور العبادة سوف ينتزع خمسين في المئة على الأقل من أسباب التوتر وعوامل الاحتقان، فإذا اتجهنا بعد ذلك إلى حسم قضايا التحول الديني أو الزواج المشترك، فإننا نكون قد اقتحمنا النصف الثاني من أسباب الفتنة وعوامل الشقاق، ولننظر مثلاً إلى الدولة الهندية الديمقراطية والتي عشت فيها سنواتٍ أربع لنجد أن المشكلات الطائفية تأتي لديهم نتيجة الإحساس بأن الدولة المغولية الإسلامية التي حكمت شبه القارة الهندية، هي التي تركت بصماتها القوية بآثارها الباقية مزاحمة بذلك الوجود الهندوكي الأصلي على نحوٍ أدى إلى جريمة التقسيم عام ،1947 بينما لا يوجد لدينا في مصر ما يشبه ذلك أو يتقاطع معه .

. . إنني أقول مطمئناً وبيقين غامض يصدر من أعماقي، إن حادث ماسبيرو الأليم سوف يكون خاتمة لسلسلة مشينة من الجرائم الطائفية محطاتها في الخانكة والزاوية الحمراء والإسكندرية والكشح ونجع حمادي والعمرانية وإطفيح وإمبابة وغيرها من العلامات السوداء في تاريخنا الوطني . إنني أزعم أن صدمة ماسبيرو سوف تؤدي إلى الإفاقة الكاملة والخروج من عبث الإجرام الطائفي والتصرفات غير المسؤولة التي تصاحبه، وأقول هنا لا للمسكنات، ولا للحلول الترقيعية، ولا للمجالس العرفية، فالقانون وحده هو سيد الموقف، وأهمس في أذن السادة المحافظين خصوصاً في صعيد مصر، إنكم تمثلون مصر الوطن لكل أبنائه دون تفرقة أو تمييز، وقد جاء وقت الحلول الجذرية لبتر سرطان الفتنة الطائفية واجتثاث جذورها بالوعي الحقيقي والتدين الصحيح إلى جانب احترام هيبة الدولة وحياد مؤسساتها الأمنية والقضائية حتى لا تطل الفتنة بوجهها الكئيب مرة أخرى . . لعن الله من يوقظها أو يدعو إليها أو يبشر بها أو يساعد عليها .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"