حدث ولم يحدث في عام 2019

03:59 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

نجح دونالد ترامب في التعجيل بالهدم استعداداً لنهاية سريعة للنظام العالمي القديم والمتهالك. الصين أيضاً نجحت في وضع بعض أسس تنسجم مع تصورها لنظام عالمي جديد
اجتمعنا، بعض أقدر المتابعين والمتابعات لحال العالم، وأنا.. اجتمعنا كعادتنا، وليس لظرف طارئ، حددنا الموعد، واخترت الموضوع، وليس في الحسبان أن يصادف اجتماعنا ظروف طوارئ. تجاوزنا في الحوار الظروف الطارئة بعد اعتراف سريع من أغلب الحاضرين بعدم الفهم. اجتهدنا كالعادة في مثل هذه المواقف، وما أكثرها هذه الأيام، وانتقلنا إلى موضوعنا، طرحت أن نعيش للحظات متخيلين أن اجتماعنا هذا ينعقد في العام 2049، وأننا اخترنا للحوار موضوعاً عنوانه «العالم عام 2019». بررت اختياري هذا العنوان مستنداً إلى اقتناع من جانبي بأن في هذا العام كاد «المخربون» أن ينتهوا من زرع الألغام الكافية لإزالة بقايا نظام عالمي قديم، وكاد آخرون أن يشرعوا في وضع علامات على الطريق نحو نظام جديد، تمهيداً لإرساء أسس له.
قدمت لموضوع الحوار بكلام كثير خلاصته في الآتي. أولاً: على الصعيد الدولي يهمنا جداً ملاحظة، ثم متابعة هذا الإصرار المثير من جانب كل الدول العظمى، من دون استثناء على المساهمة في جعل هبوط أمريكا آمناً، وهادئاً، وسلمياً، ومتدرجاً. قبل تلك المرحلة كان المفكرون قد توقفوا عن مناقشة احتمالات الهبوط الأمريكي.. لا مجال للسؤال، يكون أو لا يكون بعد أن صار الهبوط حقيقة واقعة، سواء كان هذا الهبوط منسوباً إلى صعود الصين، أو كان نتيجة حتمية لاجتماع عناصر إهمال في صيانة البنى التحتية، وفي تطوير أيديولوجية المجتمع الأمريكي والتغيرات النوعية في تكوين النخب الحاكمة، وسرعة انحدارها. لاحظنا في الوقت نفسه، أن الصين تجاوبت بسرعة وهدوء، وعدم انفعال مع هذه التطورات. لاحظنا أيضاً أن يتولى تسيير دفة الحكم شخص من خارج الدائرة الفاعلة في النخبة الأمريكية، ولكن باقتناعات قوية وإرادة متحررة من قيود كثيرة.
نجح دونالد ترامب في التعجيل بالهدم استعداداً لنهاية سريعة للنظام العالمي القديم، والمتهالك. الصين أيضا نجحت في وضع بعض أسس تنسجم مع تصورها لنظام عالمي جديد، ولاحظنا كيف أن روسيا وفقت في رئيس أعاد إليها بعضاً من مكانة، وسمح لها بأن تساهم في ترطيب مسيرة الانتقال إلى نظام دولي جديد. الآن، وبكل الثقة الممكنة، نستطيع القول إن النظام الدولي الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية لم يتبق من معالمه وعلاماته في عام 2019 إلا القليل الضروري لتسيير أمور عادية.
ثانياً: على الصعيد الإقليمي، هنا وقع التخريب في صور شتى هزت استقرار جميع شعوب المنطقة، وظهرت معالم واضحة، وأسس لنظام جديد جرى في ذلك العام رسم الكثير من تفاصيله. وهناك، وعلى امتداد سنوات سخيفة تابعنا سقوط النظام الإقليمي ذي الصفات والمعالم العربية، جرى التخريب لإسقاطه بأسلوبين متوازيين، أسلوب التخريب بالعنف والقمع وكبت طموحات التطور الطبيعي وتجميد، أو شل مؤسسات العمل العربي المشترك الرسمية، والتطوعية. أما الأسلوب الثاني في التخريب فكان بالابتزاز، ونهب الأموال، وتبديد الثروة الإقليمية، وتجفيف منابع الثقافة العربية، ومطاردة فلول القوميين العرب، ودعاة العمل التنويري، وإثارة أو تعميق الخلافات بين الدول العربية وداخلها، وإجهاض كل نشاط جماهيري لمصلحة التغيير، والتطوير، وتثبيت التفوق «الإسرائيلي» على كل ما عداه. هنا، وفي العام 2019 سمحت إيران لنفسها، وساعدتها قوى وظروف دولية، على أن تحاول التصدي لهذا التفوق، أو منافسته في المستقبل.
هذا عن تخريب نظام إقليمي قائم، أما عن إرساء أسس لنظام إقليمي جديد، فلم تكن ثمة مفاجأة لأحد منا.. تكرر النموذج الذي ألفه السياسيون في الشرق الأوسط عبر مختلف العصور، شؤوننا يقررها لاعبون أجانب ونستشار على الجانب إن دعت الحاجة.
كان العام 2019 على هذا الصعيد عاماً متميزاً، كنا نسمع، أو نشاهد أن روسيا دعت قادة من تركيا وإيران، وعلى انفراد، أو كمشروع جماعة إقليمية جديدة يمكن أن تجتمع في «إسرائيل» للتشاور حول مستقبل شأن من شؤون إقليم، أو حدود، أو مزارع يسكنها عرب، أو هاجروا منها.
هناك في سوتشي، أو الأستانة، أو موسكو أو في القدس، بعد أن صارت عاصمة أبدية، قنّنوا تفاصيل لإقليم تحت الصنع والتشكيل تماماً، كما قنّنوا خلال مباحثات فرساي تفاصيل التقسيم، وخلال مباحثات الحرب العالمية الثانية تفاصيل ما تطور بإرادتهم، أو من دونها، ليحمل عنوان النظام الإقليمي العربي. أسأل، هل ترامى إلى علم أحد منكم عنوان اختاره أهل أنقرة، أو إيران، أو موسكو للتعريف، بنا أو تحديد مكان إقامتنا في الحال، والمستقبل ورفضناه على أي مستوى من مستويات مجالس العرب. تعرفون وأنتم الخبراء، أن الوثائق والتسجيلات عن أنشطة العرب في ذلك العام، عام 2019، لم تسجل رد فعل عربياً على مستوى مجلس الجامعة العربية، أو أي مجلس دون هذا المستوى.
ثالثاً، مرة أخرى يسجل التاريخ للشرق الأوسط أنه يبقى بين كل أقاليم العالم الإقليم الأقل استقراراً، والأشد عنفاً وتطرفاً في كثير من أفكار ابتكرها، وأعمال مارسها.
لم يبز الحروب بالوكالة إلا حروب المرتزقة. قيل لي إننا نحن العرب أنفقنا على المرتزقة في ذلك العام ما لم تنفقه عليهم أكثر من خمسين دولة في إفريقيا يتأهب فيها عدد منها لسنوات حزينة تخشى أن تشهد تمزقها بفعل حروب وكالة، وحروب استعمار جديد، وحروب أهلية، وحروب مرتزقة بلا حصر. لمن السبق: أللشرق الأوسط الضارب في تاريخ الصراعات القبلية، والحروب الدينية والطائفية، ونزاعات السياسة، والمياه، أم لإفريقيا محل الحلقة الثانية من الصراع الإمبريالي على ثرواتها، ومواقع الأمطار فيها، ومساحات تتمتع بالأجواء النظيفة؟ أوشك العام 2019 على النهاية، ومازالوا يبحثون عن اسم جديد لنا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"