حرية الصحافة المفترى عليها

05:17 صباحا
قراءة 5 دقائق

هو موضوع شائك ترددت كثيراً قبل الكتابة فيه واقتحام أبوابه الموصدة، فردود الفعل حوله دائماً أصوات عالية وشعارات صاخبة وانفلات يصل إلى حد الابتزاز . لقد لاحظت في الآونة الأخيرة أن المشاعر الشخصية ترتدي أثواب القضايا العامة، وأن الشخصانية تتحكم إلى حد كبير في الآراء المطروحة والأفكار المتاحة والقضايا المثارة، وهو ما يعني ببساطة أننا أمام حالة مقلقة من حالات سوء استخدام حرية التعبير والحديث بالحق الذي يراد به باطل . بل أصبح الهجوم الشخصي وانتهاك الخصوصيات والعبث بالقيم الأخلاقية والضرب تحت الحزام والتجريح والازدراء واتخاذ مواقف حدية من طرف واحد تجاه شخوصٍ في السلطة أو خارجها أمراً مبرراً، حتى تصور البعض أن انتقاد الآخرين بدعوى حرية الصحافة يمكن أن يسمح بتجاوزات بلا حدود، خصوصاً في بلد عانى غياب حرية التعبير لعقود طويلة . وعندما يرفع الغطاء عن وعاء يغلي تتصاعد منه الأبخرة في اندفاع غير منظم، وذلك حال ما جرى ويجري في بلادنا في الآونة الأخيرة، لذلك فإنني أسجل النقاط التالية حول الظروف الحالية التي تحيط بقضية حرية الصحافة والتي أراها حرية جرى الافتراء عليها وتشويه صورتها على نحو فريد، دعنا نتأمل الملاحظات التالية:

* أولاً: أقرر بداية أنني من أشد المؤمنين بحرية الصحافة والمتشيعين لكرامة الصحافي، وكنت ومازلت وسوف أبقى ضد حبس الصحافيين بسبب قضايا النشر مهما تكن التجاوزات، الكلمة تُقرع بالكلمة والرأي بالرأي والخبر بالتصحيح، ولمن لا يعلم فإنني أكتب في الصحافة المصرية والأجنبية على امتداد الأربعين عاماً الأخيرة منذ مقالاتي الأولي في جريدة الشباب العربي في منتصف الستينات من القرن الماضي حتى الآن، ومع ذلك فإنني أعبر عن فزعي من بعض التجاوزات الصحافية التي لا تستند إلى معلومات صحيحة أو بيانات دقيقة، بل تعكس مواقف شخصية وانطباعات ذاتية، بل أحياناً عداءات لا تقف على قاعدة موضوعية أو تحليل سليم، فهي تسعى إلى التجريح والخوض في الحياة الشخصية والتعريض بالعائلات والأسر واجتزاء بعض العبارات بشكل تحكمي وتعميمها على الموقف السياسي بالكامل . وأنا أظن أن هذه الظواهر غير الصحية تحتاج إلى وقفة أمينة تعتمد على الرقابة الذاتية والتركيز على القضايا الأساسية، وفي مقدمتها الاعتبارات المتصلة بالمصلحة العليا للوطن والمسائل المرتبطة بالأمن القومي، والكشف الموضوعي عن الفساد ومعالجة النواقص من دون تهويل أو تهوين أو تعميم أو ابتزاز .

* ثانياً: أزعم أن حرية الصحافة في مصر حالياً مهما تكن الملاحظات حولها هي حرية غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث بعهديه الملكي والجمهوري، ولكنني أزعم في الوقت ذاته أنه قد جرى استخدام مساحة الحرية في الصحافة أحياناً لغير ما جاءت من أجله، فأصبحنا أمام حالة من فوضى الكتابة والتراشق من طرف واحد غالباً، وأصبحت عملية الاغتيال المعنوي للشخصيات وتشويه تاريخها أمراً ممكناً سواء كان ذلك بالنسبة للأغلبية والأقلية أو بالنسبة للحكومة والمعارضة، مع أننا ندرك أن حرية الصحافة تمثل سلطة رابعة ونرحب بها رقيباً يتجه ولاؤه إلى المواطن العادي من دون غيره، ولكننا ندرك في الوقت ذاته أن إساءة استخدام تلك السلطة عملية خطيرة قد تؤدي إلى نتائج سلبية وتصبح في النهاية قيداً على الحريات وليست سنداً لها .

* ثالثاً: لقد قيل إن آية هذا الزمان هي الصحافة، وإنها مرآة الحياة المعاصرة، وهنا مكمن الخطورة، فالعالم الخارجي خصوصاً في المنطقة العربية يشكل جزءاً من انطباعاته عن مصر الحاضر من خلال ما تنشره الصحافة خصوصاً في تركيزها على السلبيات وإبرازها لصور الفساد على نحو يبدو أحياناً مهيناً للمصريين في الخارج، لأنه يضعهم في موقف حرج أمام أشقائهم في الدول الأخرى خصوصاً إذا كانت الصحافة في تلك الدول لا تتمتع بالقدر ذاته من الحرية، ولا تمارس الدور المنتظر من الكتابة . وليس عيباً أن يكون هناك تركيز على السلبيات ولكن العيب يكمن في تجاهل الإيجابيات لأنه لا يمكن اختزال الكِنانة في قضايا الفساد ومظاهر الانحطاط وأنماط الجريمة الجديدة، وأعراض التردي من دون أن نضع في حسابنا مظاهر قوة هذا الشعب والتراكم التاريخي العريق لتقاليده وخبراته، إنني أطالب هنا بالموضوعية في الكتابة والتوازن في الرأي والعدالة التي تنصف شرائح المجتمع المختلفة .

* رابعاً: يجب أن نعترف بأنه يحسب لهذا العهد اتساع مساحة الحرية في الصحافة المصرية بشكل غير مسبوق، وقد يقول قائل إن حرية الصحافة ليست منحة من أحد وإنها روح العصر التي تفرض على الجميع الانصياع للحقائق الجديدة والأدبيات المعاصرة، فنحن في زمن رعاية حقوق الإنسان، واحترام الأقليات، وحماية البيئة والانصياع المتساوي للقانون، وإعمال مبدأ المواطنة، لذلك فإن حرية الصحافة هي جزء من كل وليست منة من أحد، وهذا قول صحيح لا أجادل فيه ولكننا لو قارنا ذلك بماضينا القريب زمنياً وواقعنا المكاني جغرافياً لوجدنا أننا أفضل بكثير من ذلك الماضي الذي عشناه، ومن أشقاء في دول الجوار يتطلعون إلى مساحة حرية مناسبة وهامش ديمقراطية لا يجدونه، لذلك فإنني أظن أن ما جرى في مصر خلال السنوات الأخيرة هو خير دليل على صحة ما نقول، كما أن مقارنة أحوالنا ببعض دول الجوار تؤكد صحة ما ذهبنا إليه .

* خامساً: إن الخيط الرفيع الذي يفصل بين الحرية القائمة على الالتزام والصحافة المعتمدة على الإثارة هو أمر يتحتم احترامه وتجب مراعاته، خصوصاً أن هناك أساليب صحافية مستحدثة تقوم على الالتواء والإثارة بالعناوين وإخراج العبارات من سياقها الطبيعي، وإبراز الجانب السلبي وتجاهل الجانب الموضوعي، بل إنها تستدرج القارئ أحياناً للوصول إلى نتائج مسبقة يسعى إليها صاحب المقال من دون أن يُعمل ضميره الصحافي، أو يحترم قارئه أو يسعى إلى تدقيق معلوماته وتمحيص مصادره فنصبح أمام محاولة واضحة لدس السم في العسل والإساءة إلى الآخرين، صراحة أو مواربة، وقد لا يكون الطرف الآخر قادراً على الرد بسبب صعوبة النشر أو نقص الفرصة المتاحة أمامه في مواجهة من لا يؤمنون بحرية الكلمة ولا يقدسون مكانتها . أعلم حالات من التشويه المتعمد سواء من الصحافة الحكومية أو المعارضة وهو أمر يؤدي إلى انتفاء المصداقية وطعن الحرية الوليدة في مقتل، لذلك فإنني أطالب بالرقابة الذاتية التي يؤدي فيها الضمير الصحافي دوره كاملاً، مؤكداً أن المبالغة واقتناص المواقف واللجوء إلى البذاءة والتجريح هي كلها نواقص تنال من مصداقية الصحافي، وتسحب من رصيده، بينما الصحافة الحقيقية هي تلك التي تقوم على الخبر الصحيح والرأي الموضوعي والتحليل السليم .

. . إنني ومعي الملايين نعتز كثيراً بحرية الصحافة المصرية ونرى فيها نقلة نوعية تواكبت معها الفضائيات في السنوات الأخيرة، لكي تتشكل من خلالهم جميعاً صورة المستقبل الذي نسعى إليه، وإذا كانت تلك الصحافة تستهدف حل المشكلات وعلاج النواقص، فإن ذلك يقتضي أيضاً درجة عالية من التجرد الإنساني والالتزام الوطني، حتى يصبح الصحافي الأمين كالمفكر الحر لا يقول إلا ما يؤمن به وما يستطيع الدفاع عنه، واضعين في الاعتبار أنه ليس كل من في الحكم فاسداً وليس كل من في المعارضة طاهراً، فلسنا نعيش في مجتمع الملائكة . ولا نسعى نحو يوتوبيا تلامس جمهورية أفلاطون الفاضلة . مرحباً بصحافة حرة بلا قيود، ولكنها من دون أهداف شخصية أو تصفيات مرحلية، مرحباً بصحافة تكشف الأخطاء وتفضح الفساد، ولكنها لا تجّرح بلا سبب ولا تتحول إلى طلقات طائشة في مدافع الهدم من دون المشاركة في البناء، مرحباً بصحافة عصرية تقوم على التوازن بين الخبر والرأي، بين المصدر والقارئ، بين الالتزام بأمن الوطن وحقوق المواطن . . فما أكثر الجرائم التي ترتكب حالياً باسم حرية الصحافة المفترى عليها .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"