حلب الشهيدة.. الحيّة

02:36 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي
ليست حرباً هذه التي تستهدف واحدة من أعرق حواضر العرب والمسلمين وهي حلب الشهباء، بالتدمير شبه الشامل وهو ما عجز عنه الغزاة على مر القرون.
ليست حرباً هذه التي تستهدف المدنيين الضعفاء بعد أن ذاق هؤلاء ويلات الحصار والتجويع والبراميل المتفجرة على مدى خمسين شهراً ماضية على الأقل.
ليست حرباً هذه التي تُمنع فيها الأمم المتحدة من إدخال المساعدات الإنسانية والغذائية مرة بعد مرة، ويتم فيها قصف شاحنات الأغذية، ثم تعطيل حركة الشاحنات كي تفسد محتوياتها وتفقد قيمتها الإغاثية.
ليس انتصاراً هذا الذي يُمنّي أصحابه النفس بإشاعة الموت والهلاك في صفوف العائلات الفقيرة والكادحين من أجل لقمة العيش، ومن كانوا على مدى عُقود بناة حلب الزاهرة وصانعي نهضتها.
ليست حرباً هذه التي يتم فيها إغلاق طرق النجاة أمام الجرحى والمصابين. ثم الإجهاز عليهم.
ليست حرباً هذه التي يصبح فيها الأطفال والنساء الهدف الأول والمفضل للقنابل العنقودية والارتجاجية وآخر ما خرجت به الترسانة الحربية من وسائل الفتك والهلاك. وكان الظن أنها وسائل ردعية مخصصة للحروب والصراع على الجبهات، فإذا بحارات حلب ومساكنها وأسواقها هي الهدف السهل و«المضمون النتائج» لهذا الأداء الحربي.
ولن يكون انتصار في هذه الحرب ما دام المستهدفون والأعداء هم من بسطاء الناس من العمال وصغار الكسبة والموظفين، الذين عاشوا في مدينتهم التاريخية ، ورفضوا أن يبارحوها وفيها لحود آبائهم وأجدادهم وأحبائهم منذ قرون.
الوحشية الفالتة من كل عقال ليست فناً من فنون الحرب ولا علماً فرعياً من العلوم العسكرية، بل هي انحدار وارتداد نحو غرائز الغاب، وعودة إلى القرون الوسطى والى عهود الظلام، حتى لو تسربل الفاعلون بأزياء العصر، وتشدّقوا بعبارات عصرية مثل قرارات مجلس الأمن والعملية السياسية وسواها.
الطائرات والقاذفات والصواريخ ليست بحد ذاتها مدعاة للاحترام! ولا تمتلك هيبة مزعومة، ما دامت تخوض في حروب رخيصة، وما دام الهدف من استخدامها هو اغتيال مدينة كبرى وإبادة سكانها. لا فرق بين الصواريخ والقنابل والأسلحة الخفيفة، حين يكون الهدف الذي تتجه إليه غير مشروع على الإطلاق، بل على العكس هو هدف تجب حمايته ومد يد العون له، لا النيل منه.
ليست حرباً هذه التي يتم فيها الاستهزاء بالأمم المتحدة ومنع تواجد قوافلها الإغاثية والغذائية ومنعها من نجدة الملهوفين والجوعى.
ليست حرباً هذه التي يتعرض فيها المسعفون ورجال الدفاع المدني لاستهدافهم قبل غيرهم، والحؤول بينهم وبين أداء دورهم الإنساني، ثم معاقبتهم بالموت لأنهم قاموا بمهمات بطولية في إنقاذ كل من يمكنهم إنقاذه من تحت الأنقاض وخاصة الأطفال.
ليسوا سياسيين هؤلاء الذين يسوّغون القتل الجماعي الأعمى، أو يقومون بالتدليس بالحديث عن هدنة وعملية سياسية، من أجل صرف الأنظار عن الفظائع التي ترتكب، أو ينشغلون بالسعي لتقديم مكافآت للسفّاحين، بدل إنقاذ من يمكن إنقاذهم من البشر البؤساء، الذين كل ذنبهم أنهم حلبيّون مسلمون متمسكون ببيوتهم أو ببقايا بيوتهم وبواجبهم في تأمين سبب العيش لهم ولأبناء مدينتهم.
يصعب الحديث السياسي عما تتعرض له حلب وأهلها، بعيداً عن الجانب الوجداني والأخلاقي. ولا حاجة لأبناء المدينة، إذ يمكن احتسابهم عدداً زائداً. إنها فرصة لاختبار الأسلحة الفتّاكة على اللحم الحي لآلاف البشر المحاصرين، وهؤلاء لا وزن لهم ولا قيمة، وإفحام الخصوم! وهي سانحة لفرض الحل السياسي الذي يريدون.. الحل الذي لا يحل شيئاً من المعضلات، ولا يُنصف مظلوماً ولا يسائل ظالماً، ولا يفتح طريقاً للخروج من عصر الغاب إلى زمن التحضر الذي تُحترم فيه حرمة الحياة البشرية، وكرامة الإنسان ويراعى الحد الأدنى من مقتضيات حكم القانون.
الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند وصف قبل أيام حلب بأنها «المدينة الشهيدة»، لكن حلب ستبقى حية في ضمائر أبنائها، كما هي كل المدن والبلدات في عموم سوريا، وكما هم كل الشهداء والضحايا والمعذبين السوريين، ولن يتوقف التاريخ عن سيره إلى الأمام.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"