حلول اقتصادية واقعية

03:20 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة

لا شك في أن زمن الخطط ولى إلى غير رجعة. كان العصر الذهبي للخطط عندما كان الاتحاد السوفيياتي موجوداً والدول التي التحقت به. فشل السوفييت اقتصادياً لأنه لا يمكن تنفيذ خطط في عالمنا المعولم حيث لا يمكن ضبط المتغيرات الاقتصادية والمالية. ماذا تعني الخطط؟ وضع خطوات تنفيذية واضحة للإنتاج والاستهلاك بحيث تؤمن لها المقومات التي تحتاج إليها كي تنجح. مثلاً إذا أردنا تنشيط الصناعة، علينا إيجاد المواد الأولية المناسبة كما اليد العاملة المتخصصة كما الخبرات الجيدة. كل صناعة تحتاج إلى مقومات مختلفة وبالتالي على الجهاز المركزي أن يؤمن وجود التفاصيل كي ينجح الإنتاج في الوقت المناسب والنوعية المطلوبة. كان الفرنسيون منذ الستينات واعين لهذا الموضوع إذ وضعوا خططاً توجيهية لا تفرض على القطاعين العام والخاص، أي عكس الأهداف السوفيياتية. كانت الصين مدركة لخطورة الخطط وبالتالي وضعت خططاً خماسية، حررت القطاع الخاص وجعلته رأسمالياً في الممارسة والعقيدة والعلاقات الدولية. حصل أن فرنسا والصين نجحتا على طريقتهما بينما فشل الاتحاد السوفييتي وانهار. من هنا كانت تسمية مشروع 2030 السعودي رؤية وليس خطة لأنه من المستحيل ضبط كل شيء بدقة في عالمنا المنفتح الواسع.
تحاول العلوم الاقتصادية تفسير كل ما يجري في العالم خطأ أم صحيحاً. هنالك عقود من العلم النظري والعملي الذي تم معظمه في الغرب دون أن ننكر حصة علماء من الشرق عملوا في الجامعات الغربية التي تحتوي على الإمكانيات المطلوبة. أعطت جائزة نوبل لمن ساهم في تطوير النظريات وكذلك لمن طور التطبيق العملي المفيد للمجتمعات كافة. تغيرت العلوم الاقتصادية عبر الزمن ليس فقط بسبب الأدوات وإنما بسبب التجارب الناجحة كما الفاشلة. لم يعد مرغوباً اليوم مثلاً وضع نظريات شمولية أي كما نظر أدام سميث أو كارل ماركس لأن الظروف تغيرت والكفاءات تنوعت. أصبح مطلوباً حلول واقعية لمشاكل محددة بحيث تكون المقترحات مفيدة لمن يرغب في تطبيقها. تقديم نصائح محددة لمشاكل آنية أفضل بكثير من النظريات التي تحاول معالجة كل المشاكل في نفس الوقت. هذا ما ميز الاقتصاد في العقود القليلة الأخيرة وأعطى العلوم الاقتصادية قوتها الكبيرة المفيدة والعملية.
إذا عدنا إلى النظريات القديمة المؤسسة للعلوم، نرى أنها حاولت دراسة أنظمة وكيفية معالجة مشاكل الفقر وتوزع الدخل والثروة وبالتالي أعطيت جائزة نوبل للاقتصاد لمن نجح في تقديم حلول كبرى للمشاكل الخطيرة الكبيرة ك«ميلتون فريدمان» و«لورانس كلاين» و«جيمس توبين». مؤخراً، تغيرت العلوم نحو إيجاد حلول لمشاكل محدودة كالسعادة والنمو والنقل وفعالية الاتصالات. لا شك في أنها مفيدة اليوم أكثر من النظريات الكبرى لأن العالم كبر وأصبح معقداً أكثر بكثير ولا يمكن تطبيق حلول دفعة واحدة. لذا أعطيت نوبل مؤخراً ل»ريشارد تايلر» و»يوجين فاما» وغيرهما. لا ننكر إعطاء الجائزة لوليام فيكري في سنة 1996 الذي وضع حلولاً لعمليات الازدحام في كل شيء وكان سباقاً في نقل العلوم الاقتصادية إلى المعضلات اليومية. مع الوقت أصبحت العلوم الاقتصادية كما الاقتصاديون أكثر تواضعاً بسبب التجارب الصعبة الفاشلة وبسبب تزايد العقد العملية.
الجميع ينتظر من الاقتصاديين حلولاً، لكن الإمكانيات غير متوافرة أحياناً. استعمال تقنيات سهلة لحل مشاكل معقدة لا يفيد كما أن استعمال تقنيات معقدة يعقد الأمور أكثر. لذا خسر الاقتصاديون الكثير من شعبيتهم بالرغم من أنهم لا يدافعون عموماً عن النتائج التي يمكن أن يكونوا غير مسؤولين عنها أو غير مسببين لها. خسر الاقتصاديون بعضاً من شعبيتهم لأنهم استعملوا التقنيات المعقدة من رياضيات وإحصائيات وحواسب وبرامج لحل مشاكل بسيطة ذات طابع إنساني أكثر من تقني. خسر الاقتصاديون بعضاً من شعبيتهم، لأنه كما قال «داني رودريك» في كتابه عن العلوم الاقتصادية، بسبب عدم اكتراثهم للعلوم الاجتماعية الأخرى من سياسة واجتماع وعلوم نفسية وغيرها. هنالك تغير كبير اليوم يظهر جلياً عبر جوائز نوبل التي أعطيت مؤخراً لمن تواصل واستعان بالعلوم الأخرى وأدخلها إلى الاقتصاد. هنالك عدم اكتراث وربما جهل في الاتجاهين كي نكون أصحاب حق وعدالة.
لم يكن ممكناً تأمين النجاح الاقتصادي العالمي لولا تطور العلوم الاقتصادية. من كان يعتقد أن الاقتصاديين مثلاً أو بعضهم يقترحون تقديم إعانات نقدية مباشرة أفضل من الدعم الذي يخفض التكلفة. في رأي هذا البعض، أن الإنسان يهتم بما عنده وليس بالحسومات التي تعطى له علماً بأن الأمرين متساويان مالياً. بعد الحرب العالمية الثانية في تموز 1944، اجتمع ممثلون عن 44 دولة في «بروتون وودز» لتأسيس نظام نقدي جديد وتأسيس 3 مؤسسات كبيرة هي البنك الدولي وصندوق النقد والاتفاقية التجارية التي تحولت في سنة 1995 إلى منظمة التجارة العالمية. كان هنالك مؤلفان لهذا المشروع الكبير أي البريطاني «جون ماينارد كينز» والأمريكي «هاري ديكستير وايت». نجح النظام حتى سنة 1971 فقط لكن المؤسسات الثلاث مستمرة بنجاح والعالم أجمع يصغي لمقترحاتها.
إذا نظرنا إلى المشاكل الاقتصادية الحالية، نرى أن معظمها سهل الفهم والحل لكننا نطبق عليها تقنيات تعقدها. 95% من المشاكل الاقتصادية الحالية هي منطقية، لكنها تقدم إلى الرأي العام بطرق معقدة أي تحتوي على الرياضيات والإحصائيات التي تجعلها غامضة. من القضايا التي شغلت الرأي العام والمتخصصين في الاقتصاد هي منطقة اليورو ومدى حيويتها وقدرتها على الاستمرار. من الأسئلة المهمة المتداولة والتي لم تجد إجماعاً عليها حتى اليوم هي مثلاً هل يمكن لنقد أن يعيش من دون دولة تحميه؟ هل يمكن إنشاء وحدة نقدية من دون وحدة مالية؟ هل قيمنا فعلاً دور السياسة النقدية في الأزمات وأهمية استقلالية المصرف المركزي حتى يستطيع القيام بعمله على أفضل وجه؟ لولا السياسات النقدية السخية من قبل المصرفين المركزيين الأمريكي والأوروبي لاستمرت الأزمة المالية العالمية حتى اليوم.
هل فهمنا من التجارب أن التقشف القاسي مضر حتى لو كان مفيداً مالياً لضبط الأمور. التقشف يضر بالنمو وبالتالي يسيء إلى البطالة. ما نفع الإنفاد إذا سبب ارتفاعاً كبيراً في عدد العاطلين عن العمل وفي نسب الفقر. هل استفدنا من الأزمات السابقة لنضع ضوابط لعمل القطاع المالي والمصارف تحديداً. يظهر اليوم أننا نعود إلى قواعد الماضي أي انفلاث مصرفي غير مراقب وغير مضبوط. ما هو الجدوى من هذه الخطوات الحالية؟ هل استفدنا من التجارب لنعالج مشاكل الفساد عالمياً، وما رأيناه في رومانيا من مطالبة شعبية لضرب الفساد يفرحنا ويشكل مثالاً كبيراً جيداً لكل الدول. أخيراً ما هي الانتقادات الباقية الأساسية التي توجه للاقتصاديين؟
أولاً: يتجاهلون تقدم العلوم الأخرى ولا يستفيدون منها لحل المشاكل الاقتصادية. هنالك جانب حقيقي لكن كلمة تجاهل غير دقيقة، إذ يجهل الاقتصادي أحياناً ما يحصل في القطاعات الأخرى. هذا ليس تجاهلاً بل ربما جهلاً غير مقصود.
ثانياً: تتكل النظريات الاقتصادية على فرضيات يمكن أن تكون غير واقعية أو أحياناً خاطئة. يعود هذا الاتكال إلى تشعب الاقتصاد العالمي وبالتالي من الصعب معالجة كل الأمور دفعة واحدة. يؤدي هذا الواقع إلى أخطاء في وصف الواقع وإلى تعسر في التوقعات.
ثالثاً: لا يمكن بناء اقتصادات حديثة صحيحة إذا لم نهتم بالأخلاق وهذا في غاية الأهمية. تحقيق الأرباح من دون حدود مضر وسيئ ويجب أن نقرأ ما كتبه «محمد يونس» وغيره عن الاقتصاد السليم والشريف والعطوف. الفعالية مهمة لكنها ليست كل شيء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"