خصوم العرب وأعداؤهم

04:55 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

يذهب الكثير من رجالات الفكر السياسي، إلى القول إن وجود الدولة الحديثة وامتلاكها للقدرة على قيادة مجتمعاتها ارتبط بشكل كبير بمدى نجاحها في تشكيل صورة العدو، وفي تسويق تلك الصورة على نطاق واسع، بين مواطنيها، ونخبها السياسية والفكرية. وقد مثلت ثنائية العدو والصديق، أو الخصم والحليف، أبرز الأزواج اللغوية والمفاهيمية في تاريخ الفكر السياسي البشري، منذ أن شرع الإنسان في التنظير الواعي والعقلاني لممارساته السياسية في سياق البناء المجتمعي لمختلف الحضارات الكبرى، من بلاد الرافدين إلى الإمبراطورية الأمريكية المعاصرة.
وبالرغم من ازدهار الخطابات السياسية الداعية إلى التسامح والإخاء بين مختلف الشعوب، وإلى نبذ التعصب القائم على الهويات العرقية والقومية والدينية، نتيجة للحروب المدمرة التي قاد إليها الفرز الصارم ما بين العدو والصديق، إلا أننا بتنا نشهد في العقدين الأخيرين عودة قوية لهذه الثنائية منذ وصول المحافظين الجدد إلى الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية.
وعندما نتحدث الآن، عن الأعداء والخصوم في المجال السياسي العربي والإسلامي، فإننا لا نفعل ذلك إلا في نطاق ضيق، ومحدود، وفي سياق مشهد دولي مضطرب، تميّزه الهجمة الشرسة، وغير المسبوقة التي يقوم بها الآخر على كياننا الحضاري والقومي؛ ويرجع من ثمة سبب التحفظ الذي نجده في الخطاب السياسي العربي تجاه التعامل النظري مع هذه الثنائية، إلى الشطط الذي خضعت له في استعمالاتها الأكثر تداولاً بين الناس؛ حيث يتم في الأغلب الرفع من الخصومة أو الخلاف في المواقف السياسية بين الدول العربية إلى مستوى العداوة والبغضاء، ويؤدي ذلك إلى استبدال العدو الهوياتي والوجودي بأعداء آخرين من أبناء العمومة، توجّه نحوهم كل سهام الكراهية والبغضاء. وبالتالي، فعندما نبحث في قاموس الألفاظ المنتشرة في خطاباتنا العربية فإننا لا نعثر في الأغلب إلا على صورة العدو - الخصم، أو في أحسن الأحوال على أعداء العقيدة الذين يوصفون في أدبيات تيار الإسلام السياسي بأعداء الأمة، ونجد في المقابل حضوراً باهتاً لصورة العدو «الإسرائيلي»، أو العدو المستعمر في تجلياته التقليدية والمعاصرة.
يمكننا أن نستحضر في هذه المقاربة نموذجين فكريين معاصرين حاولا إبراز الدور الذي تلعبه فكرة العدو في الثقافة الإنسانية من خلال كتابين أساسيين، الأول هو «بناء العدو» للمفكر الإيطالي أمبرتو إيكو، والثاني «مفهوم السياسي» للباحث الألماني كارل شميت. يحمل الكتاب الأول صبغة سياسية معكوسة، يسعى إيكو من خلاله إلى معالجة ما علق في نفوس الأوروبيين من آثار الحروب الناجمة عن النزعة القومية المتشددة، وبالتالي فهو يتعامل مع مسألة العدو بنوع من الطرافة والسخرية، من خلال استحضار قصص مثيرة عن التصورات غير العقلانية التي كانت تحملها الشعوب الأوروبية عن أعدائها؛ ويشير بداية من المقدمة إلى الدردشة التي أجراها مع السائق الآسيوي المسلم الذي سأله عن جنسيته قبل أن يطلب منه أن يذكر له من هو عدو إيطاليا، ليدفعه بذلك إلى إعادة طرح سؤال العدو في المرحلة الراهنة، وإلى محاولة إبراز الطابع المنحرف للفكر الذي يدفع الكائن إلى بناء العدو وإلى الحط من قيمته ومحاولة تدميره.
وبموازاة هذا الطرح الذي يحذر من فكرة بناء العدو التي تهدد استقرار العلاقات الإنسانية، وتسهم في انتشار الحروب المدمرة بين الشعوب، يسعى الكتاب الثاني لكارل شميت، إلى إبراز الطابع الجوهري لفكرة العدو بالنسبة للدولة الحديثة التي تهدف إلى الدفاع عن هويتها القومية، وعن حدودها الوطنية، وإلى مواجهة أطماع خصومها. وقد نُشر الكتاب قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، التي دفعت نتائجها المدمرة بعض المثقفين الألمان، مثل هابرماس وكارل ياسبرز، إلى ممارسة جلد للذات من خلال تحميل النزعة القومية الألمانية مسؤولية التدمير، وكل الشرور والمآسي التي لحقت بأوروبا. ويتحدث شميت في كتابه الموسوم: «مفهوم السياسي» عن ملابسات قيام الدولة الحديثة في أوروبا، وعن استبعادها لمفهوم العدو من كيانها الداخلي، ويشير في الفصل الثاني من كتابه إلى استناد القيمة المعيارية لما هو سياسي إلى الفعل القائم على فرز العدو عن الصديق، كما يقوم بتقديم شرح واسع لمفهوم العدو في الفصل الثالث، الذي يقيم فيه تميزاً أساسياً ما بين العدو العام والعدو الخاص، أي بين العدو السياسي الذي يقاتلنا، والعدو الخاص الذي ننفر منه لأنه يكرهنا.
ولاشك في أن لدينا نحن العرب، أن العدو السياسي هو الذي يحاربنا ويحتل أرضنا منذ تاريخ النكبة في فلسطين، هو الذي يعنينا في هذا المقام، لأنه يفرض الحرب علينا ويقاتلنا في عقر دارنا. ويظل هذا التصور السياسي لمفهوم العدو حاضراً في وجدان ووعي الشعوب العربية، على الرغم من التسويات السياسية التي تقوم بها الدول الوطنية، فقد احتفظ الشعبان المصري والأردني بمبدأ رفض التطبيع مع العدو «الإسرائيلي» بالرغم من إبرام اتفاقيتي السلام المصرية والأردنية مع «إسرائيل».
كما تمثل الخصومة السياسية الراهنة مع إيران شكلاً من أشكال العداوة السياسية مع نظام الإسلام السياسي القائم في طهران، الذي يسعى إلى زعزعة استقرار جيرانه العرب منذ أكثر من 3 عقود؛ وبالتالي فليس لهذا العداء السياسي أي صبغة طائفية، أو شعوبية، وهو ليس موجهاً في كل الأحوال، نحو الشعب الإيراني المسلم الذي تجمعنا به أواصر الدين ومنجزات الحضارة المشتركة الضاربة في عمق التاريخ.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"