دبلوماسية سيرك متجول

00:54 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

حضرت دروساً في أصول الدبلوماسية وبعض فنونها على أيدي أساتذة ومؤرخين محترمين في معاهد علمية مرموقة. ثم اخترتها مهنة، بل فضلتها على التدريس، إحدى أشرف المهن في ذلك الوقت. صحيح أنني، وزملاء عديدين، لم نجد في انتظارنا، لسوء الحظ، في وزارة الخارجية عدداً كافياً من المخضرمين ينقل لنا تجاربه في العمل الدبلوماسي، وصحيح أيضاً أن البعض منا اكتشف بعد سنوات قليلة أنه ألقى بنفسه في أتون مهنة ظاهرها ناعم وجوفها بركاني.
كان العالم ينتقل من مرحلة كادت فيها الفاشية في طبعاتها الثلاث: الألمانية والإيطالية واليابانية، تطغى في العالم بإمبراطوريات أشد قسوة ووحشية من إمبراطوريات الغرب التقليدية، وهذه كانت على وشك أن تنحسر تحت ضغط ثورات شعوب المستعمرات. كان هذا النفر من الشباب يجمع في منظومة فكره إعجاباً واقتناعاً بعصر جديد في الدبلوماسية، أهم مكوناته على الإطلاق، الالتزام باحترام القانون الدولي، والدفاع عنه، وفي صدارة هذه المكونات تألقت المؤسسات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، وأجهزتها، ومبادئها. أضفنا من عندنا الاقتناع بفكرة الحياد الإيجابي، بخاصة بعد أن طورها زعماء المرحلة من قادة حركة تحرر الشعوب، لتستحق عنوان عدم الانحياز.
أشفق على شباب دبلوماسية هذه الأيام، أشفق عليهم من التلقين اليومي من الإعلام الخارجي بأخلاق وسلوكيات بعيدة كل البعد عن أخلاق وسلوكيات الدبلوماسية، كما نشأ عليها، وعهدها، ونقلها إلى أجيال أخرى مؤرخون، وقادة، وسياسيون على مستوى راق من الخبرة والثقافة.
لم تكن بين عاداتي مشاهدة تسجيل لحدث، أو حفل اكثر من مرة، حتى بدأت في الآونة الأخيرة أشاهد مؤتمرات قمة دولية يحضرها كبار القادة في العالم الغربي، بخاصة تلك التي يشارك فيها الرئيس دونالد ترامب. أخذتها مأخذ الجد منذ كنت تلميذ سياسة. كان لسمعة مؤتمرات العاصمة النمساوية في القرن التاسع عشر مكانة خاصة في نفوسنا كشبان دبلوماسية. تعلمنا منذ شبابنا أن الأعراف الدولية تنشأ، أو تترسخ في مثل هذه المؤتمرات، واللقاءات التي يحضرها صناع السياسة، والقرار في مختلف الدول. هناك يتبادل القادة معلوماتهم عن القوة الحقيقية لبلادهم في الساحة الدولية. في فرساي مثلاًً، عرف تلاميذ السياسة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ولأول مرة، موقع الولايات المتحدة في توازنات القوة، قبل أن يثبت لهم أن في نية واشنطن العودة الى الانعزال عن عالم الصراعات الأوروبية. كانت واشنطن تأكدت من مداولات قمة فرساي، أن صراعات أوروبا لن تهدأ. بعد فرساي بأقل من عقدين عادت واشنطن لتقرر أن انعزالها ربما شجع اليابانيين على تهديد مصالحها في المحيط الهادي، والنازيين والروس السوفييت على تهديد الأمن والسلام في المحيط الأطلسي. كان كافياً للمتابع والمهتم أن يدقق في القمم التي عقدها الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية ليعرف أن أمريكا تخطط لنظام دولي جديد.
هذا النظام الدولي الجديد سوف يعتمد اللبيرالية السياسية فلسفة، وعقيدة، ومؤسسات، وسوف يختار حرية التجارة وممارسات أخرى على طريق عولمة الاقتصاد، والنقل، والاتصالات، وتصفية الاستعمار التقليدي. وأسفر العمل الجاد والتصرفات الوقورة والعقائد الراسخة التي اتسمت بها هذه القمم المصغرة، ثم قمة سان فرانسيسكو، عن نظام دولي مبتكر. هذا النظام نراه هذه الأيام، ورأيناه في اليابان هذا الأسبوع، بأقصى درجات الوضوح الممكن، رأيناه يتفسخ أمام أعيننا، ولم يمر على إطلاقه سوى سبعين عاماً.
القمم السابقة شيء، وقمة العشرين في أوساكا التي عقدت خلال الأسبوع الماضي شيء آخر. صحيح أن تفكيك أواصر الحلف الأطلسي، والمعسكر الغربي بصفة عامة، بدأ قبل أول قمة يحضرها الرئيس ترامب، وصحيح أن موقفه في تلك القمم من قواعد ومبادئ حقوقية وقانونية، مثل قاعدة احترام الحكومات لحقوق مواطنيها،كان واضحاً وموثقاً بسياسات وقرارات أمريكية لا تقبل الشك، إلا أنها جميعها، وغيرها، لا يرقى الى المستوى الذي صاغه، وأصر عليه الرئيس فلاديمير بوتين، من خلال تصريحه الأشهر عن أن الليبرالية مسألة تجاوزت أمد صلاحيتها.
ما زال الرئيس ترامب يفاجئنا. يفاجئنا يومياً بهذا الاختراع المسمى بالتغريدات. ولا شك في أنه استطاع باستخدامه أن ينفذ كل صباح الى مراكز صنع القرار في كل ركن من العالم من دون استئذان، وبتأثير مباشر. يفاجئنا أيضاً بتمثيلياته التي يكتب سيناريوهاتها بنفسه، كما كان يكتب، ويخرج، ويمثل تمثيليات تلفزيون الواقع. تراه منبهراً وهو يعلن من دون سابق إنذار نقل سفارته الى القدس. تراه متشفيّاً من باراك أوباما، وهو يعلن خروجه على الاتفاق النووي الذي عقده قادة المجتمع الدولي مع إيران. رأيناه مسليّاً وهو يعرض على الرئيس كيم عقد لقاء على الحدود الفاصلة بين الكوريتين. ثم رأيناه يبدع في التسلية وهو يتراقص أمام الكاميرات في صحبة رئيس كوريا الشمالية الذي بدا على الدوام شاباً وقوراً، على عكس ما بدا عليه الرئيس الأمريكي، شيخاً متصابياً، وثقيل الظل. هنا يتراقص، وهناك في الشرق الأوسط يهدد إيران بمحوها من على الخريطة لسبب معلن، هو سبب وجوده في كوريا الشمالية نفسه، اتفاق نووي جديد. ليس هكذا يتعامل الحكماء مع خصومهم في منطقة تسبح في بحيرة نفط جاهز للاشتعال.
كثيرة هي أعراض الفوضي في دبلوماسية القمم الدولية المعاصرة. وكثيرة وعصية على الفهم تصرفات قادة ورجال دولة في المحافل الدولية.
تاريخ الدبلوماسية في العصر الحديث حافل بالانعطافات والنوادر وعلامات الانحدار، ولكن لا مرحلة في هذا التاريخ تنافس في التردي المرحلة الراهنة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"