دروس للقوى السياسية العربية

02:54 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. علي محمد فخرو
ها هو المغرب العربي ينضمّ إلى تونس كساحة لدرس بليغ في كيفية مواجهة تعقيدات ومحن السياسة بالحكمة وأساليب الأخذ والعطاء العصرية وتغليب مصالح الوطن على أية مصالح آنية أو فئوية ضيِّقة. ففي تونس، أول ساحات تفجر الربيع العربي، عرفت مؤسسات المجتمع المدني السياسية والنقابية، بوعي وهدوء وبالأخذ بسياسة الأولويات والنفس الطويل، كيف تدير بنجاح فترة ما بعد سقوط نظام الحكم السابق. لقد تجنَّبت ممارسات إقصاء الآخر والانفراد بالسلطة وعدم المشاركة في توزيع الغنائم، وحاولت بقدر المستطاع الأخذ بمتطلبات الفترة الانتقالية من نظام قديم إلى نظام جديد، وذلك من خلال الاحتكام إلى المواطنين بشأن توزيع السلطات التشريعية وسلطات الحكم.
بهذا قللت من مدى الصراعات فيما بينها، وجعلت المنافسات تجري في أجواء غير عاصفة وغير انتحارية. ولأنها فعلت ذلك تجنَّبت إلى حد معقول الدخول في دوامة الانتكاسات والثورات المضادة، ومن ثمّ إدخال المواطنين في حالات اليأس والقنوط.
والنتيجة أن الانتفاضة التونسية الربيعية نجحت في وضع أرجلها في طريق الانتقال إلى النظام الديمقراطي المعقول. وهي بالطبع في أول الطريق، وهي ترتكب الأخطاء بين الحين والآخر، و لا يزال أمامها الكثير والكثير من التحديات الأمنية والاقتصادية، وما برحت هشّة قابلة للانكسار ولسرقة منجزاتها من قبل هذه الجهة أوتلك، غير أن ما يهمنا هو أن تستخلص الكثير من قوى المجتمعات المدنية السياسية الدروس والعبر من هذه التجربة السياسية العربية لتتبنّى إيجابياتها ولترفض الأخذ بسلبياتها.
لقد كُتب الكثير عن الظاهرة التونسية، ولا حاجة إلى إعادة ما كتب.
تقابل التجربة التونسية الديمقراطية تلك، بخصوصيات ظروفها وأساليب عملها ونتائجها الإيجابية والسلبية، تجربة ديموقراطية أخرى قامت في المغرب العربي بفعل أجواء الربيع العربي الذي عمّق جذورها وأعطاها خصوصيَّتها هي الأخرى.
لقد كانت هناك ملامح حياة ديمقراطية في المملكة المغربية قبل هبوب عواصف ونسائم الربيع العربي التي اجتاحت بصور شتى كل أرض وطن العرب.
اليوم، وعلى ضوء سيرورة ونتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، نحن أمام تجربة هي الأخرى تحثّ السير في الطريق الديمقراطي، وبالطبع في أوله. ما يهمنا بالنسبة لها هو الإشارة إلى بعض الدروس والعبر التي نرجو مخلصين وبتواضع تام أن تلتفت إليها قوى المجتمعات العربية المدنية السياسية في جميع أرجاء الوطن العربي.
أولاً - في حين احتاجت التجربة الديمقراطية التونسية لوقوفها على أرجلها إسقاط نظام حكم، فإن التجربة الديمقراطية المغربية الجديدة قامت كحصيلة لتفاهم متوازن طويل النَّفس مبني على تنازلات متبادلة فيما بين نظام حكم الدولة وبين قوى المجتمع المدني السياسية وغير السياسية في المملكة المغربية.
هذا درس يحتاج لأن يعيه الكثير من أنظمة الحكم العربية والكثير من قوى المجتمعات العربية السياسية.
ثانياً - في كلا البلدين، تونس والمغرب، لعب التواجد التاريخي القوي الفاعل لقوى، من مثل النقابات والاتحادات والجمعيات بأشكالها وتعدديتها الكثيرة، لعب ذلك التواجد الذي ساند المطالب الديمقراطية والمطالبين بها، دوراً مهماً ومؤثراً في الخطوة الأولى المتّزنة في الطريق الديمقراطي الطويل المعقّد. تحالف القوى السياسية مع قوى المجتمع المدني الأخرى أصبح موضوعاً مفصلياً في الحياة السياسية العربية.
ثالثاً - لقد أثبتت التجربتان أن إحدى وسائل بناء قاعدة انتخابية وفية لولائها الحزبي تمر عبر الاشتراك المستمر في كل الانتخابات البرلمانية. إن ذلك يبني شيئاً فشيئاً إمكانات تراكمية للنجاح في الانتخابات. كمثل على ذلك نجاح حزب العدالة والتنمية المغربي في الانتقال التدريجي التراكمي عبر عشرين سنة من امتلاك مقاعد برلمانية لا يزيد عددها على عدد أصابع اليد في الدورات الانتخابية الأولى إلى حصوله على ما يزيد على مئة مقعد في الانتخابات الأخيرة، أي أكثر من عدد مقاعد أي حزب آخر، ما يؤهله للمرة الثانية لتأليف الحكومة المغربية القادمة.
وكمثل أيضاً، وبصورة معاكسة، لم تحصل بعض أحزاب اليسار إلا على النزر القليل من المقاعد بسبب مقاطعتها العديد من الدورات الانتخابية السابقة، ما أفقدها القدرة على بناء تدريجي تراكمي لكتلة انتخابية كبيرة وموالية.
إنه درس بليغ بشأن مخاطر مقاطعة الانتخابات والاعتقاد العبثي بأن المقاطعة هي عقاب يوجه إلى سلطة الحكم بينما الحقيقة هي أن المقاطعة هي إضاعة للتواجد في ساحة برلمانية ونضالية ينسى المقاطعون أنها يجب أن تعود ملكيتها لمؤسسات المجتمع وللمواطنين، وبالتالي يجب ألّا تترك قط لتصبح ملكاً لسلطة الحكم التنفيذية.
فالناس لا يتحمسون للشعارات الإيديولوجية البالغة الأهمية إلا إذا اقترنت مع نضالات يومية من أجل مطالب معيشية محددة وعاجلة في حياتهم.
رابعاً - هناك دروس تفصيلية كثيرة للأنظمة السياسية العربية بشأن شفافية الانتخابات ونزاهتها واستنادها إلى قوانين عادلة. والواقع أن المجال لا يسمح بذكر الدروس الكثيرة الأخرى التي سيدركها من كان جاداً في دراسة التجربتين.
ليس صحيحاً أن التربة العربية ليست صالحة لزرع شجرة الديمقراطية، فالتجربتان السابقتان تؤكدان العكس بشرط توفر الزارع المجد النشط والعناصر الأخرى التي تحتاجها نبتة الديمقراطية السليمة المثمرة.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"