دولة الرعاية في الوطن العربي

02:35 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

أثارت الإجراءات التقشفية التي اتخذتها بعض الحكومات من أجل كبح جماح الإنفاق العمومي المتصاعد وما رافقها من نقاش مجتمعي وإعلامي، تساؤلات محورية ومصيرية في غاية الأهمية بشأن وضعية دولة الرعاية والرفاه في الوطن العربي، من منطلق أن الاقتصاد العالمي بات يمر بمرحلة انتقالية شديدة الصعوبة تتميز بالاعتماد المتزايد على التنافس في مجال الاقتصاد المنتج وتراجع نسبة حضور الاقتصاد الريعي القائم على تقاسم المداخيل الناجمة عن إنتاج وتصدير الموارد الطبيعية. أبرزت مجمل الآراء أن تضخم الجهاز الإداري بات يشكل عبئاً ثقيلاً على ميزانية الأغلبية الساحقة من الدول الوطنية من المحيط إلى الخليج، حيث أشار الكاتب السعودي علي القاسمي إلى أن عدد موظفي الدولة في القطاعين المدني والعسكري في المملكة، بلغ 3,32 مليون موظف بنهاية 2014 وشكلت مخصصات الرواتب والبدلات وأجور العمال خلال سنة 2015، نحو38 في المئة من الميزانية الإجمالية للدولة. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن وضعية الإنفاق العمومي في دول عربية ذات كثافة سكانية عالية مثل مصر والسودان والجزائر والمغرب، حيث يحتل القطاع الحكومي المرتبة الأولى في نسبة التوظيف ويكاد يحتكر في كثير من الأحيان سوق العمالة لمصلحته، الأمر الذي يخلق صعوبات كبيرة بالنسبة لميزانية مجمل هذه الدول.
قبل أن نصدر حكمنا بشأن هذه الوضعية الاقتصادية التي تتسبب في اختلال كبير في الموازنة العامة لأغلب الحكومات العربية، علينا بداية أن نفهم الخلفيات الفكرية والسياسية التي أسهمت في نشأة دولة الرعاية في العالم، وأصبحت مع مرور الزمن جزءاً رئيسياً في منظومة الحكم بالنسبة للدول القومية في كل أنحاء المعمورة، مع الأخذ بعين الاعتبار الفروقات الموجودة داخل كل دولة بحسب التقاليد المجتمعية التي تخضع لنظام تراتبي يضيق ويتسع بحسب المقتضيات التي تفرضها آليات الاستقرار الاجتماعي. ويمكن القول إن لفظ الرعاية المشار إليه في هذا السياق يحمل خلفية ليبرالية، يتم بموجبه الحكم بطريقة سلبية على تدخل الدولة في مجالات الرعاية الاجتماعية.
ويجب الاعتراف أن مشكلة دولة الرعاية في الوطن العربي لا تتعلق بالضمان الاجتماعي والحماية الصحية للمرضى، ولكنها ترتبط بتضخم الجهاز البيروقراطي وبغلبة قطاع الوظيفة الحكومية على قطاع الأعمال والخدمات والمجالات المتصلة بالاقتصاد المنتج في قطاعي الفلاحة والصناعة بشكل خاص، الأمر الذي يجعل ميزانية الدول تواجه ضغوطاً كبيرة على مستوى مواردها المالية. ونستطيع أن نزعم في سياق هذه المقاربة السريعة، بأن تعثر برامج إصلاح هذه المنظومة المختلة السائدة في أغلب الدول العربية ناجم عن حالة الخوف من التغيير، وعدم رغبة النخب الحاكمة في تحمل تبعات تجارب جديدة في مجال التسيير، قد يكون من نتائجها إلحاق أضرار بليغة بالتوازنات الهشة داخل المجتمعات، وبخاصة وأننا نعيش بحسب الفيلسوف الفرنسي «لوك فيري» انتشاراً غير مسبوق لحالة من الخوف وتزايداً مذهلاً في نسبة الأخطار، وبالتالي فإن ما يعمق من أزمتنا الحالية هو وجود محاولات متعددة من أجل إزالة الطابع السلبي لانفعال الخوف الطبيعي لدى البشر، وبالتالي فإن هناك من يذهب إلى القول، إن تغييب عنصر الخوف من وضعية الهشاشة الاجتماعية قد يفضي إلى حالة اجتماعية يصبح فيها المواطن في وضع غير إنساني يشبه حكم الغاب تتخلى فيه الدولة عن واجباتها .
وتحدث كل هذه التحولات الفجائية المتسارعة في سياق دولي يتميز بانحصار هامش المناورة لدى الكيانات الوطنية، من أجل التدخل الفعال لضبط آليات السوق ولمواجهة مسارات العولمة المتوثبة والشرسة. بيد أن هذا التخوف المشروع لا ينفي وجود وضعيات غير سوية، تجد أغلب الدول نفسها مضطرة لمواجهة تداعياتها من أجل المحافظة على عناصر سيادتها خدمة لأجنداتها الوطنية، وذلك في ظل وجود أولويات صحية وتعليمية وأمنية، تفرض إعادة ترتيب سلم الاختيارات الأساسية والاستراتيجية بالنسبة للنخب الحاكمة؛ وبخاصة في هذه المرحلة التاريخية المفصلية التي تعرف فيها الدول الوطنية تحولات كبرى، يميزها التراجع الكبير في كفاءة وقدرة مؤسسات الدولة على التحكم في الموارد المالية وفي مراقبة حركة رؤوس الأموال. الأمر الذي يدفع الكثيرين إلى فتح نقاش واسع على المستويين القومي والقطري، بشأن جدوى التكلفة الباهظة للإنفاق الاجتماعي وما يتصل به من إجراءات بيروقراطية يجري تنفيذها من طرف دولة الرعاية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"