دول عانت وتتعافى

03:30 صباحا
قراءة 5 دقائق

د. لويس حبيقة

مهم جداً الانتباه للطبقات غير الميسورة ولأوضاع الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تبقى العمود الفقري لكل الاقتصادات حتى في الولايات المتحدة الأمريكية.
معظم دول العالم يعاني إن لم يكن جميعها. الاقتصادات تنمو بصعوبة والتحديات الاقتصادية كما السياسية والاجتماعية تكبر. المطلوب من كل دولة أن ترتب أوضاعها الداخلية، لأن فرص وإمكانيات المساعدة الخارجية ضاقت عملياً. من كان يعتقد لسنوات قليلة مضت أن دولاً نفطية غنية ستدخل ضرائب إليها وتخفف أو تلغي الدعم عن العديد من السلع والخدمات.
دول أوروبا تعاني بقوة منذ سنة 2008 ومشكلة خروج بريطانيا من الوحدة ليست أقل المشاكل إذ هنالك كاتالونيا مثلاً، كما لا تخلو دولة واحدة من تحديات كبرى بما فيها ألمانيا التي تعثرت حتى في تشكيل حكومتها الجديدة. أوضاع أوروبا عموماً تحسنت لكنها لم تتعاف بعد. أمريكا تريد تحسين أوضاعها الداخلية، فانتخبت دونالد ترامب ليعيد «أمريكا قوية» مجدداً. نتائج السنة الأولى من حكم ترامب تتأرجح بين الإيجابي في تخفيض البطالة وارتفاع مؤشر البورصة لكنها سلبية في مواضيع مهمة جداً كالعلاقات بين شرائح المجتمع الأمريكي المتنوعة. أوضاع أمريكا اللاتينية وإفريقيا معروفة ولا تحسد عليها خاصة في قضايا الفساد. وحدها آسيا تعالج أوضاعها بنجاح وصمت بالرغم من أن تحدياتها تكبر مع نمو سكانها وتعاظم حاجاتهم كما أن أوضاع الكوريتين لا تخلو من المخاطر.
بالرغم من هذا الوصف الواقعي الصعب، لا ننكر وجود تجارب ناجحة حققت نتائج إيجابية بعد صعوبات مريرة ونقصد هنا تحديداً دول أوروبا الجنوبية الـ4 اليونان، إيرلندا، البرتغال وإسبانيا. في اليونان، ارتفع النمو السنوي من سلبي 4,3% في 2009 إلى إيجابي 0,7% في سنة 2014 وهذا ليس بالقليل في دولة عانت كثيراً الفوضى والفساد. عانت أيضاً التردد في مساعدتها بسخاء من قبل الأوروبيين والألمان تحديداً كما من قبل المجتمع الدولي وصندوق النقد. نجاح الدول الأخرى لم يكن أقل وهجاً حيث ارتفع النمو الإيرلندي من سلبي 5,6% في 2009 إلى إيجابي 7,8% في 2015. في البرتغال، ارتفع النمو السنوي من سلبي 3% في 2009 إلى إيجابي 1,5% في 2015 وفي إسبانيا من سلبي 3,6% إلى إيجابي 3,2% في الفترة نفسها. أرقام صندوق النقد الأولية لسنة 2017 جميعها إيجابية للدول الـ4 أي 2,7% لليونان، 3,6% لإيرلندا، 1,3%للبرتغال و 2,3% لإسبانيا. تحققت هذه الإنجازات المهمة السريعة نسبياً في دول حافظت على الديمقراطية والحريات داخلها وطورت خدماتها وحسنت من فعالية إداراتها العامة.
ما هي الأسباب الأساسية لتعثر مسيرة هذه الدول تحديداً بدأ من سنة 2009 علماً بأن الأزمة كانت عالمية ولم تنجو منها أي دولة حتى المتطورة؟ هل هنالك أسباب مشتركة حتى نستطيع تجنبها في دولنا؟ هل الاستقرار الاقتصادي كاف أم هنالك عوامل إضافية يجب توافرها لتأمين النمو النوعي؟ هل هنالك أهمية لسوء توزع الدخل بين الشعوب علماً بأن الدول الـ4 تعاني بدرجات مختلفة من سوء العدالة أي توافر نسبة قليلة من الأغنياء وأعداد كبيرة من ذوي الدخل المحدود؟ كما أن الاهتمام بالشركات الصغيرة والمتوسطة لم يكن عموماً كبيراً كالاهتمام بالشركات الكبيرة ما دفع بعضها إلى الهجرة أو إلى الانضمام إلى الشركات الكبيرة ما ينعكس سلباً على المنافسة والأسعار وحقوق المستهلكين.
أولاً: حجم الدين العام الذي ارتفع كثيراً في الدول الـ4 قبل الأزمة وخلالها. في الأرقام، ارتفع الدين العام اليوناني من 104% من الناتج في سنة 2000 إلى 179% في سنة 2014. حصل ذلك بالرغم من إلغاء بعض الديون المصرفية تجاه الدولة. في إيرلندا، ارتفع الدين من 36% في سنة 2000 إلى 108% في سنة 2014 في دولة كانت تعتبر رائدة في التطور التكنولوجي وبراءات الاختراع. في البرتغال، ارتفع الدين العام من 50% من الناتج إلى 130% منه خلال الفترة نفسها علماً بأن البرتغال لم تكن يوماً في مستوى التنمية الذي عرفته إيرلندا. يبقى أن نقول إن إسبانيا رفعت دينها من 58% إلى 99% وهي أحد الاقتصادات الأساسية الأوروبية والدولة الغنية المتنوعة في الزراعة والصناعة وخاصة في الخدمات السياحية الرائدة.
ثانياً: التزام الدول الـ4 بسياسات مالية اتفق عليها مع منظمة الوحدة الأوروبية كما المصرف المركزي الأوروبي بالإضافة إلى صندوق النقد الدولي. أعطى هذا الالتزام المعنوي والسياسي كما التطبيقي رسالة جدية إلى الأسواق خاصة المالية تحولت إلى ثقة متزايدة بالاقتصادات المعنية. الاهتمام بالموازنات كان أساسياً ترشيداً للإنفاق غير المجدي وتخفيفاً للفساد الذي كان مستشرياً في الدول الـ4. لم تتحقق نفس الإنجازات في كل من الدول إذ لكل اقتصاد خصائصه التي احترمت. بعد هذا الإنجاز المالي، عادت هذه الدول إلى رفع الإنفاق بترو لتأمين حاجات الاقتصاد وبعض المطالب الاجتماعية الكثيرة المحقة.
ثالثاً: تبين من التجارب الأوروبية أن حجم الصادرات لا يعتمد فقط على مستوى الأجور وبالتالي ليس المطلوب ضرب المستوى المعيشي للعمال والموظفين لتخفيض تكلفة الإنتاج لهدف التصدير. تبين أن هنالك عوامل لا تقل أهمية عن الأجور كالإنتاجية ومستوى التكنولوجيا وتوافر الأسواق الطالبة للسلع والخدمات. وجود مجتمع عمالي مرتاح يحسن الأجواء العامة ويعطي دفعاً للنمو والصادرات.
رابعاً: لأن الدول الـ4 هي أعضاء في منطقة اليورو أي تتبع السياسات النقدية للمصرف المركزي الأوروبي، استطاعت حكوماتها التركيز على السياسات المالية واعتمدت في نفس الوقت على السياسات الحكيمة المحافظة للمصرف المركزي الموجود في فرانكفورت.
خامساً: تطبيق الإصلاحات الهيكلية مهم جداً. تطبيقها قبل الأزمات يخفف من وطأتها دون أن يمنعها. تطبيقها بعد الأزمات أو خلالها هو إيجابي لكنه لن يعطي المفعول نفسه. بين الدول الـ4، كانت إيرلندا الناجحة الأولى أي حافظت على الناتج الفردي الحقيقي بينما تدنى المؤشر بنسب مختلفة في الدول الـ3 الأخرى. كانت الخسارة ستكون أكبر بكثير لولا تطبيق السياسات المالية المطلوبة والقيام بالإصلاحات الهيكلية.
التجارب المذكورة جميعها مفيدة وأعطت نتائج إيجابية واضحة في الدول الأربعة يمكن تطبيقها في الدول العربية. تخفيف الخسائر ضروري حتى لو لم يأت التقدم بسرعة. الإصلاحات لا تتم دفعة واحدة بل هي مسيرة مستمرة، ومهم جداً حسن التوقيت أي تنفيذها قبل الأزمة وليس قسراً خلالها أو بعدها. مهم جداً الانتباه للطبقات غير الميسورة ولأوضاع الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تبقى العمود الفقري لكل الاقتصادات حتى في الولايات المتحدة الأمريكية. التنبه لأوضاع المصارف دائماً مهم، اذ ليست هنالك أزمات من دون سوء تصرف مصرفي عائد للإدارات ولسوء الرقابة أو للتواطؤ الممكن دائماً. المهم دائماً عمل كل ما يمكن لتشجيع الاستثمارات التي تبقى مصدر النمو. في مؤشر سهولة الأعمال الصادر عن البنك الدولي، يأتي ترتيب الدول الـ4 كما يلي: إيرلندا في المركز 17 عالمياً، إسبانيا (28)، البرتغال (29) واليونان (67). الفساد هو في صلب هذا التقييم حيث هو الأدنى في إيرلندا والأعلى في اليونان. يمكن للدول تحسين ترتيبها عبر تعديل العديد من الإجراءات والقوانين التي يمكن أن تجذب المستثمرين إليها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"