ديمقراطية في أزمة

03:47 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي تجري جولاتها التمهيدية حالياً ليست كغيرها من الانتخابات. لا بسبب الطبيعة الاستثنائية للمرشحين الرئيسيين فحسب، ولكن لأنها أطلقت وعلى نحو غير متوقع طاقة الغضب الكامنة في صدور الأمريكيين. وكشفت عن أزمة صامتة يعيشها المجتمع بنخبته السياسية وقاعدته الشعبية على السواء.
ألقت الانتخابات الضوء على فجوة هائلة تفصل بين الجانبين لم تفلح كل آليات الديمقراطية في عبورها وتجاوزها. منحت المعركة الانتخابية الأمريكيين فرصة كانوا ينتظرونها لإطلاق مشاعر الغضب الحبيسة في صدورهم. وجاء التعبير عنها في صورة تصويت احتجاجي لمن يرون أنه من خارج المؤسسة، أو متمرد عليها، أو يمثل الأمل في إصلاحها.
المرشحون الثلاثة الذين يتصدرون السباق يجسدون الحالة الاستثنائية التي تعيشها الولايات المتحدة حاليا. الأكثر تعبيراً عن هذا الوضع هو دونالد ترامب المرشح الجمهوري القادم من خارج الحزب ليكتسح الجميع في طريقه رغم أنف سدنة المعبد الجمهوري العتيد. ديمقراطياً يظل الاستثناء قائماً: هيلاري كلينتون المرشحة الأرجح، ولو أنها من داخل المؤسسة، إلا أنها أول سيدة يمكن أن تتولى الرئاسة فيما ينظر إليه كثيرون على أنه جزء من التمرد على الاحتكار الذكوري للمنصب. منافسها الصامد حتى الآن بيرني ساندرز حالة استثنائية صارخة أيضا فهو يهودي يطمح في القفز إلى مقعد ظل دائماً محجوزاً للبروتستانت باستثناء كاثوليكي نادر. وهو كذلك اشتراكي يبشر بثورة سياسية في معقل الرأسمالية العالمي.
ومع ذلك فليس هذا هو أهم ما في الانتخابات الحالية. الأهم هذه المرة هو الشعور الجارف بأن أمريكا في أزمة، وأن ديمقراطيتها الراسخة عجزت عن إرضاء تطلعات شعبها أو جسر الهوة بين القمة والقاعدة.
المشكلة أكبر من ترامب بجموحه وجنونه لأنها تتعلق بتعافي المجتمع وحيوية نظامه السياسي. والكتابات والمناقشات عن ذلك لا تتوقف في الإعلام الأمريكي. ترامب في الواقع لا يختلف عن غيره من منافسيه الجمهوريين. الفارق الوحيد أنه يقول ما يؤمنون به جميعاً بصراحة بل وقاحة أحياناً، بينما يردد الآخرون نفس الآراء بلغة أكثر نعومة.
عبر عن هذا المعنى رجل دين بروتستانتي جمهوري هو وليام باربر بقوله إن الواقع ليس كما يصوره خصوم ترامب على أنهم معتدلون وهو متطرف. لأن تحليل برامجهم يوضح أن جل اختلافهم معه يتعلق بالأسلوب وليس بالجوهر.
يضع هذا الكاهن يده على المرض الذي تعانيه بلاده. ووفقاً لتشخيصه فهي حالة من الخوف والجنون العنصري تسكن الأمريكيين. وهي موجهة بالطبع ضد الأجانب والمهاجرين بما يرتبط بهم من خطر إرهابي أو تقليص لفرص العمل.
الأزمة من جانب آخر كما يراها تكمن فيما يطلق عليه الثقافة السياسية الفاسدة المهيمنة على الحكم. هذا الفساد ليس وليد اليوم ولكنه محصلة تراكمات طويلة أوجدها بالأساس الشحن الإعلامي والسياسي الذي خلق عقلية تؤمن بمنطق «نحن وهم». أي الأمريكيين ضد الآخرين سواء أجانب أو حتى مواطنين سود. خلق هذا الوضع نزوعاً للعنف تحصد ثماره الأمة حالياً.
المسؤولية عن تلك الأزمة الكبرى يتحملها الجمهوريون والديمقراطيون معا. وهو رأي يطرحه كاتب وناشط سياسي آخر هو روبرت باري الذي عمل سابقاً في «وكالة اسوشيتد برس» للأنباء ومجلة «نيوزويك». يرى هذا الكاتب أن هاتين المؤسستين اللتين تقودان البلاد كلتاهما فاسدة. ولكن كلتاهما تدلل وول ستريت وتحبذ التدخل العسكري، والخلاف في كيفية تسويق الحروب للجمهور.
غير أن الفساد ليس الوجه الوحيد للأزمة وفقاً لما يرى السيناتور الجمهوري دافيد بيرديو، الذي يعتقد أن الطبقة السياسية الحاكمة (أياً كان الحزب المسؤول) لديها خوف حقيقي من أن تفقد سلطتها ونفوذها. وبسبب هذا الخوف يهتم أهل القمة بجماعات المصالح التي تمول حملاتهم الانتخابية والتي بفضلها يتولون مناصبهم، أكثر من اهتمامهم بالناخبين الذين أتوا بهم إلى واشنطن.
النتيجة الطبيعية لهذه الفجوة هي الإحباط الذي تولد ثم تعمق مع الوقت في نفوس الأمريكيين، ومعه اتسعت الهوة بينهم وبين ممثليهم وقادتهم المنتخبين. يدلل السيناتور على هذه الحقيقة بالإشارة إلى استطلاع بين الجمهوريين أوضح أن 68% منهم يعتقدون أن الحكومة لا تأبه برأيهم. بينما أظهر استطلاع آخر في ولاية جورجيا التي ينتمي إليها أن 6 من كل عشرة جمهوريين يشعرون بخيانة حزبهم.
يلخص السيناتور الموقف بقوله إن الناس غاضبون، ومحبطون، وخائفون، ويشعرون بأن واشنطن تتجاهلهم. وهذه المشاعر هي التي تحرك الأمريكيين الآن وليس أي توجه سياسي أو إيديولوجي. لم يعد الفضاء السياسي منقسماً بين جمهوري وديمقراطي أو ليبرالي ومحافظ، فقد أصبح الجميع في الغضب سواء.
من يدري، قد تكون تلك لحظة ميلاد حركة شعبية جديدة، هادرة وجامحة لن تنتهي بانتهاء الانتخابات لأنه لم يعد بوسع المهمشين والغاضبين الصمت أو الانتظار أكثر من ذلك. الحل الذي يقترحه بيرديو هو البحث عن طريقة لاستعادة ثقة الشعب، والخطوة الأولى هي الإنصات إليه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"