ذُرى لا تبلغها سوى النسور

شيء ما
04:45 صباحا
قراءة دقيقتين

في اليوم الواحد نجيب عن عشرات الأسئلة دون تفكير. ثمة أجوبة تلقائية، جاهزة لا تحتاج لإرهاق الذهن حتى نقولها رداً على أسئلة من طبيعة هذه الأجوبة، لكن كلمة طبعا المدوية، الرنانة، الفاتنة التي نطلقها دلالة الموافقة على اقتراح آسر للروح، على فكرة ترد بالصوت الأليف، الحنون، الحميم الذي نعرف، لا تشبه تلك الإجابات.

إنها تنطلق دوما من ذلك الحيز الأكثر إشراقا وشغفا وشغبا في ذواتنا، إنها إذ تشبه شيئاً فلا تشبه سوى عبارة بطل رواية ماركيز: الحب في زمن الكوليرا، التي كانت جاهزة في ذهنه منذ سنوات حين هتف للقبطان دونما تردد: إلى الأبد.

لم يكن بوسع السفينة التي أقلتهما أن ترسو في الميناء، ولم يكن بوسع الرجل والمرأة أن ينزلا إلى المدينة. كان وباء الكوليرا قد تفشى فيها، واتخذت السلطات المحلية قراراً بسد المنافذ إليها.

وكان الرجل قد انتظر العمر كله المرأة التي أحبها كيما يصطحبها في رحلة على النهر تمتد أياما وليالي بعدما فرقت بينهما السنوات، وإذ وصلت الرحلة إلى نهايتها شعر الاثنان أن هذا الوصول يشبه الموت، فلم يعد بوسعهما تصور نفسيهما يعيشان بعد ذلك بعيدين عن بعضهما.

لم يكونا يتصوران بيتا آخر لهما سوى القمرة التي ضمتهما طوال أيام الرحلة ولياليها، وحين عرفا أن المدينة موبوءة بالكوليرا وأن على السفينة أن تعود من حيث أتت، غمر الرجل شعور مدهش بالسعادة، وأعطى القبطانَ الأوامر بالعودة إلى المدينة التي انطلقا منها، وحين سأله القبطان: إلامَ تظن أننا سنستطيع الاستمرار في هذا الذهاب والإياب الملعون، كان الجواب جاهزا وقاطعا عند الرجل العاشق: مدى الحياة.

ولكن الفكرة لم تكن في الجواب نفسه، وإنما في الطريقة القاطعة، الحاسمة الجازمة التي أجاب بها الرجل، حيث لا مجال للتردد ولا النقاش ولا البحث. كانت المرأة مأخوذة بالصوت القديم المعطاء وهو يضيء بحزمه في إصدار الأمر.

لعلها في قرارة نفسها كانت تريد الأمر نفسه، تريد العودة في رحلة عكسية، ولكنها أُخذت بالجواب الذي أعطاه الرجل للقبطان دونما تلكؤ أو تفكير. كان أمراً أشبه بالانطلاق نحو الذرى التي لا تبلغها إلا النسور القوية الجسورة، حين تتحد الرغبة في ولوج عوالم جديدة موغلة في الغرابة والدهشة والفتنة الطاغية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"