رأسمالية الكوارث

04:59 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو
منذ بضع سنين نشرت الكاتبة والصحفية نعومي كلاين كتابها المعنون ب «مبدأ الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث». تؤكد المؤلفة أنه ما إن حدثت كارثة طبيعية كبيرة في بلد، كإعصار كاترينا الشهير الذي ضرب ولاية نيو أورليانز في جنوبي الولايات المتحدة الأمريكية، أو اجتياح واحتلال لبلد، كالاحتلال الأمريكي للعراق، أو أزمة مالية كبيرة، كما حدث في العديد من البلدان عدة مرات، ما إن حدثت مثل تلك الفواجع الشاملة الموجعة للجميع حتى برزت ظاهرة لافتة، متماثلة إلى أبعد الحدود، في تلك الأحوال.
إنها ظاهرة الصدمة الاجتماعية التي يصاب بها كل مكونات المجتمع، بحيث يفقد المجتمع توازنه، وكثيراً من قيمه وتصبح لديه قابلية لقبول الكثير مما كان سابقاً لا يقبله. هذا السقم الاجتماعي والنفسي الموجع يجعل المواطنين متلهفين للخروج من آلامهم وأوجاعهم بأي ثمن كان.
هنا تأتي قوى رأسمالية الكوارث، بانتهازية لجني الأرباح، وبلؤم وقسوة لتغيير السياسات والقوانين لصالح الشركات وأصحاب الثروات وضد مصالح الفقراء والمهمشين.
تعطي نعومي كلاين أمثلة لشرح ما تعني، ففي نيوأورليانز الأمريكية تهدمت الكثير من المدارس الحكومية التي كان التعليم فيها مجاناً. في الحال تقدم الأغنياء الممولون بغرض بناء تلك المدارس بشرط أن تسلم تلك المدارس إلى شركات تعليم خاص لإدارتها. كان الهدف السياسي واضحاً: تغيير التعليم المجاني الحكومي ليصبح تعليماً خاصاً مربحاً تديره شركات خاصة. وهكذا، وتحت وطأة صدمة الكارثة، جرى تغيير جذري في النظام التعليمي، ما كان من الممكن قبوله من قبل المجتمع قبل حدوث الصدمة.
المثال الآخر، ما حدث من خصخصة واسعة النطاق لأغلب الخدمات الاجتماعية، مثل الصحة والتعليم والسكن ورعاية الأيتام والفقراء والمعوزين المهمشين، التي كانت تحمل مسؤوليتها الحكومات، وذلك بعد حدوث أزمات مالية أو انقلابات عسكرية أو مؤامرات من قبل استخبارات أجنبية، لقد فرضت خصخصة جائرة في العديد من بلدان أمريكا الجنوبية وآسيا وإفريقيا وأوروبا الشرقية. لقد قبل مواطنو تلك البلدان حلول الخصخصة تلك اعتقاداً منهم بأنها ستخرجهم من الأزمات الطاحنة الصادمة التي كانوا يعيشونها. كان الرابح الشركات والممولون من أصحاب الثروات، وكان الخاسر المواطنون الذين شيئاً فشيئاً أصبحوا يعيشون في ظل حكومات لا التزام لديها تجاه مواطنيها في حقول بالغة الأهمية مثل الصحة والتعليم على الأخص.
تذكر الكاتبة بإسهاب شديد أن وراء فلسفة رأسمالية الكوارث التي تستغل كل كارثة لصالحها من جهة، ولإجراء تغييرات سياسية واقتصادية كبرى في البلدان المصابة بتلك الكوارث.. تنظيراً واقتراح وسائل وإقناعاً لحكومات الغرب ولمؤسسات الضغط المالية الدولية، من قبل مدرسة شيكاغو بقيادة الاقتصادي النيوليبرالي العولمي المخاتل والمعلم لألوف القادة العالميين، الفيلسوف ميلتون فريدمان.
إنه صاحب القول الشهير: «فقط إبان الأزمات والصدمات يمكن إحداث تغييرات حقيقية.. فما كان سياسياً أمراً مستحيلاً، يصبح في الحال أمراً ممكناً. لقد كان هو ومدرسته وراء نهب فقراء نيو أورليانز، ووراء الاستشارات المقدمة للطاغية بينوشيه في تشيلي الأمريكية الجنوبية من أجل خصخصة كل شيء». من تلك الخلفية يطرح سؤال نفسه: هل الأمر نفسه يحدث في بلاد العرب التي تواجه أزمة صادمة قل نظيرها في العالم المعاصر؟ أزمة الصراعات الدموية الداخلية في العديد من الأقطار العربية التي دمرت البنيات الحياتية والعلاقات الاجتماعية وتنذر بكوارث مستقبلية لا يستطيع أحد أن يتنبأ بمداها وحدتها؟
هل الفكر النيوليبرالي الرأسمالي الانتهازي لمدرسة شيكاغو سيجد لنفسه مكاناً وأنصاراً يستغلون الأوضاع العربية البائسة أو المأزومة ليجنوا الأرباح من جهة، وليمرروا سياسات واستراتيجيات تؤدي إلى تخلي الحكومات عن مسؤولياتها الاجتماعية والدول عن التزاماتها الإنسانية؟
لنتذكر أن ميلتون فريدمان لم يكن عراباً أمريكياً فقط، لقد كان عراباً عولمياً له أنصار ومريدون في كل العالم، بما فيها بلاد العرب، إن موته منذ بضع سنوات لم يمت مدرسته ولا فكره الانتهازي. إنه فكر يتلاءم تماماً مع النيوليبرالية العولمية أينما تكون.
هناك حاجة لفضح ذلك الفكر وأساليب عمله الشيطانية قبل أن يصبح أداة في أيادي من يريدون دماراً للسياسة وللاقتصاد في أقطار الوطن العربي المنكوبة أو المأزومة.
إنها مهمة تاريخية وجودية.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"