رعاية حقوق الإنسان في الإمارات بين العملية والتنظيرية

23:28 مساء
قراءة 4 دقائق
من الخطأ الظن أن متطلبات رعاية حقوق الإنسان يمكن أن، تكون مقصورة على كل من يلّوح بشهادات تعليمية تخصصية أو عامة، فالتصدي لهذا الأمر، أمر رعاية حقوق الإنسان، ليس فلسفة وليس تنظيراً أو خطابات شعاراتية، المسألة برمتها تقتصر على التربية التي يتلقاها الإنسان بدءاً من بيئته ومدرسته وانتهاء باقتحامه حياته المعيشية عبر درب الحياة، ثم ثقافته الذاتية التي يتلقاها من تجارب الحياة العملية، وفوق هذا كله إيمانه واقتناعه بأن للناس حقوقاً وأن عليه مثل الذي له، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.. وأخوك هنا، وفي هذه اللفتة النبوية الحضارية، ليس الذي ينتمي إلى أبيك وأمك أو عشيرتك الأقربين، بل أي إنسان من سائر الناس والبشر.وهنا ندرك أن الاختصاصية أو التكنوقراطية وحدها لا تكفي لكي يكون الإنسان ناشطاً في مجال حقوق الإنسان وداعياً إليها.. بل يكفي كفاية تامة أن يكون هذا الناشط الواعي محباً ومتحمساً لمسؤوليته ومؤمناً ملتزماً بما يقوله، وتدفعه دوافع ذاتية من تلقاء نفسه، بأن له حقوقاً وأن للآخرين حقوقاً مماثلة، وأن عليه أن يسعى ما وسعه السعي إلى ذلك لإحقاق هذه الحقوق ولإيجاد آليات من خلال القنوات الشرعية المتاحة للتطبيق العملي ولاستخدام هذه الآليات.لقد قرأت شخصياً أكثر من كتاب وأكثر من نشرة عن نظرية حقوق الإنسان في المجتمعات العربية التي تتشابه مع ظروفنا البيئية والسياسية والاجتماعية، وحضرت أكثر من اجتماع للمنظمات والهيئات الإقليمية الناشطة في مجال حقوق الإنسان، وذلك من قبل ومن بعد إنشاء جمعية الإمارات لحقوق الإنسان التي أتشرف بالانتماء إلى عضويتها.. وفي واقع الأمر لم ألاحظ أن هذه الجمعيات الإقليمية وكثيراً ممن ينتمون إليها من أصحاب النظريات التنظيرية الذين يدبجون المقالات والآراء حولها.. لم ألاحظ أن هؤلاء قد استطاعوا الوصول إلى نجاح مرض لتحقيق ما ينادون به، والسبب الأساسي كما لاحظته أن معظم دعوات هؤلاء، تنظيرية تعلوها الإنشائية ومغلفة بالادعاء المعرفي المتفوق للمنظر، وأن كثيراً من هذه التنظيرات هي من قبيل العرض التسويقي لشخصية المنظر نفسها أكثر من الرغبة في الخدمة الاجتماعية، ولو وضعت هذه التنظيرات على محك الواقع لوجدناها بعيداً عن الآلية العملية للتطبيق.كذلك أدركت من تجاربي واحتكاكي بهؤلاء المنظرين في الداخل والخارج، أن بعضهم لا يعلم أو يحاول أن لا يعلم أنّ من يتصدى لرعاية حقوق الإنسان وينشط للخدمة في هذا المجال، عليه إذا أراد أن يكون حقيقة مراعياً لحقوق الإنسان أن يتجرد من النظرة الشوفينينية الوطنية التي تجعل من القريب خيراً من البعيد، وأن النظرة الإنسانية هي فوق الشوفينية والانتمائية القبلية والعشائرية والقومية، وعندما يأتي التعامل مع الإنسان المستحق للمراعاة فإن الشعور الإنساني يكون فوق أي شعور آخر، واعتقد أن عضو جمعية الإنسان ينبغي أن يكون من هذا الصنف، الصنف الذي يعلو بإنسانيته إلى الفوق وإلى الأعلى. المنظرون والسلطة: عند هؤلاء المنظرين والشعاراتية أن كل ما تفعله الإدارة القائمة في مجتمعاتهم، يعلوها الخطأ والنقصان، بل هو الخطأ بعينه، وهم على طول الخط في خلاف مع هذه الأنظمة، أحسنت هذه الأنظمة في عمل ما أو أساءت.. الأمر في نظر هؤلاء المنظرين سواء، لا يقولون أبداً لأيه إدارة إنها أحسنت فيما تفعله، بل التركيز هو على التفتيش عن السلبيات، وتضخيمها وإنزال العقاب النقدي الجارح بها.. وهنا يقع النفور بين أنظمة الإدارة في المجتمع والمنظرين في جمعيات حقوق الإنسان وما شابهها من الجمعيات، والتجمعات التابعة للمجتمع المدني.. والنفور بطبيعة الحال يعني التباعد من الجانبين وبالتالي عدم الوصول إلى أي تفاهم أو تقارب.وكلنا نقر أن المجتمعات العربية مازالت بعيدة كثيراً عن تحقيق ما تتطلبه هيئات حقوق الإنسان في العالم المتقدم، سواء كانت هذه الهيئات في أوروبا أو في أمريكا أو في الدول المشابهة كاستراليا وبعض الدول الآسيوية المتقدمة كماليزيا وسنغافورة، لكن هذه المجتمعات العربية وخاصة تلك التي تتبنى سياسة الانفتاح الديمقراطي والتطوير اللامركزي، كمصر وشمال إفريقيا والأردن والعراق (الحديث)، وأكثرية دول الخليج، هذه الدول تسير في الحقيقة سيراً متطوراً نحو تحقيق الحد الأدنى في مجال تحقيق متطلبات الهيئات الدولية التي تدعو كل الدول إلى توفير رعاية حقوق الإنسان، وتعتبر الإمارات أحد هذه المجتمعات التي تتطور بتشريعاتها في مجالات كثيرة، وفي الواقع فإن سن القوانين والتشريعات والالتزام بها هي في حد ذاتها إنجاز كبير في تحقيق متطلبات حقوق الإنسان، وأقرب الأمثلة على ذلك أن الإمارات تتجه نحو الإصلاح السياسي المتدرج، وعندي أن ما حدث في تشكيل المجلس الوطني الجديد يشكل خطوة تقدمية كبيرة، في هذا التدرج الحسن. وكلنا نعرف أيضاً أن الإصلاح السياسي في أي بلد، معناه إصلاح أحوال الإنسان والاعتراف بحقوقه المشروعة في العيش ضمن مجتمع يساوي بين أفراده، في الحقوق والواجبات.وقد علمتنا التجارب العملية، وليست التنظيرية والخيالية أن التفاهم أو محاولة الوصول إلى التفاهم بين منظمات المجتمع المدني والهيئات الرسمية للدولة، وكذلك الابتعاد عن التخاطب التشنجي الادعائي والشعاراتي، السبيل الأمثل لتحقيق الغاية المرجوة.وفي جمعية الإمارات لحقوق الإنسان استطاع أعضاء عاديون لا يتشدقون بالتنظيرية ولا يلوحون بالادعائية المعرفية الفوقية، ولا يبخسون الناس أشياءها، استطاعوا أن يصلوا إلى حلول وتفاهم للكثير من المشكلات العالقة للإنسان في الإمارات، وخلال فترة وجيزة، وذلك لنشاطهم النابع من إيمانهم الحقيقي وليس التنظيري، وحضورهم الدائم ومتابعتهم لقضايا حقوق الإنسان.. وعندما أحس العديدون من المسؤولين في الهيئات الرسمية بنشاط هؤلاء وأدركوا أنها صادرة من عفوية الطبع الخيري الراسخ في نفوس هؤلاء الأعضاء العاديين، وليس من التكلف والتطبع، تم التجاوب والتعاون وتذليل الصعاب لحل المعضلات واحدة تلو أخرى بين هؤلاء الأعضاء العاديين في الجمعية والسلطة الرسمية.وأخيراً لابد أن ندرك أنه بقدر ما نسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية للإنسان أو الفرد العادي في المجتمع، كذلك علينا أن نقر بأن هيئات الدولة ومؤسساتها تدار بواسطة أفراد من البشر، يشبهون غيرهم، وأن من حق هؤلاء أيضاً أن تصان حقوقهم وأن يعيش هؤلاء في مأمن من التعامل والتخاطب القسري المثير للنفور.. والخلاصة أننا إذا لم نستطع تحسين الأحوال فلا أقل من أن نحاول تحسين الأقوال.. ورحم الله أبا الطيب الذي يشير إشارة جميلة إلى هذا المبدأ:لا خيل عندك تهديها ولا مالُ فليسعد النطق إن لم يسعد الحالُ
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"