رنين الأماكن

03:09 صباحا
قراءة دقيقتين
د. عبدالعزيز المقالح

حالة من التحدي ترافق الشعوب وهي تستعيد وجودها القومي واللغوي وتدفعها إلى تجاوز ما تعانيه بأقل وقت من الزمن.

ليست الأماكن التي رأيناها، أو نراها ذات شكل واحد، أو ذات رنين متشابه، لكل مكان لونه، وصوته، ورنينه الخاص، عندما ترى بعض الأماكن تشعر بأنك تسمع أعذب موسيقى، وعلى العكس من ذلك ترى بعض الأماكن التي تشعرك بأنها تردد أنيناً خافتاً، أو صارخاً، وأخرى لا صوت ولا رنين لها.

ولا أنسى ذات صباح وأنا أطل من نافذة الطائرة على باريس، وأحسست بأن سطوحها تغني، وأن شوارعها ترقص. لم يكن إحساساً داخلياً فحسب، وإنما حالة من الانجذاب تملك كل حواسي، لقد زرت كثيراً من العواصم الأوروبية والعربية، ووجدت أن بعضها مسمط لا يوحي بأي إحساس، أو لحن، وليس ذلك انعكاساً لحالة الإعجاب التي امتلكتني ساعة الاقتراب من باريس، وإنما هو إحساس داخلي يمتلكنا جميعاً، ونحن ننظر لأول مرة نحو مدينة، أو حتى قرية.

وفي أقطارنا العربية عدد من المدن التي تراها وتحملك معها على مجموعة ألحان، وأغان راقصة، كما هو الحال مع مدينة الجزائر، تلك التي تشعرك وأنت تراها من الفضاء، أو تدخل إليها من البر كأن أجمل موسيقى على وجه الأرض ترافقك، وتكاد تشعر من هذه المدينة العربية بأنك تسمع التاريخ يتحدث، وأصوات الشهداء تغني للمجد، والخلود، لقد استطاعت هذه المدينة - كما نعلم جميعاً - أن تستعيد تاريخها ولغتها، وأن تقاوم كل محاولات التغريب، والفرنسة.

وهي الآن، بحمد الله، تتكلم العربية أفضل كثيراً من عدد من مدننا المغربية، أو المشرقية، وهي نموذج عظيم للمدن التي ناضلت وانتزعت وجودها القومي من براثن القوى المهيمنة. وقد أسعدني أن أزور الجزائر في عام 1961م، وهو عام استقلالها، وأن أزورها بعد خمس سنوات لأجد المواطن الذي كان يتردد في نطق الكلمات العربية قد أصبح ينطقها بطلاقة مثيرة للإعجاب، وهو ما لم يكن في الحسبان، لكن الشعوب إذا أرادت حققت بقوة إرادتها ما تريد.

وما يلفت الانتباه، أن حالة من التحدي ترافق الشعوب وهي تستعيد وجودها القومي واللغوي، وتدفعها إلى تجاوز ما تعانيه بأقل وقت من الزمن. وسيبقى وضع الجزائر في هذا المجال مثار كتابات ومناقشات تطول لما تمثله من نجاح التحدي والتغلب على الاغتراب.

ولنا، ونحن نتحدث عن انتصار الجزائر بهذا المجال، أن نلوم بعض أقطارنا، المشرقية منها بالذات، على إهمالها للغة العربية، واعتقادها الخاطئ أنها حين لم تتعرض للاستعمار ومؤامراته، في أمان من التحدي اللغوي، وهو تصور خاطئ لا يقوم على أي دليل، وفي الحالة الراهنة تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنها تتعرض للضعف والعبث. ورغم ما قيل عن وجود المجامع العربية لحماية هذه اللغة، إلاّ أن التدهور متواصل، وتحتاج إلى اهتمام رسمي وشعبي، وإلى العناية بمستويات التعليم من الابتدائية حتى الجامعة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"