روسيا والأطلسي و«الحرب الباردة» الجديدة

02:14 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.غسان العزي

قبل أن تبدأ قمة حلف الأطلسي في وارسو، في الثامن من الشهر الجاري، وُصفَت ب «التاريخية»، وانعقدت طوال يومين تحت عنوانين أساسيين هما: تدعيم الخاصرة الشرقية للحلف في مواجهة روسيا، ومكافحة الإرهاب. وفور انعقادها أعلن أمين عام الحلف ينس شتولتنبرغ بأن «الحلف لا يبحث عن المواجهة ولا يريد حرباً باردة جديدة». لكن وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر قال إن «الحلف يسعى لاحتواء روسيا». وهذه المفردة بحد ذاتها تعود إلى الحرب الباردة، فتذكّر بالمقالة الشهيرة التي كتبها جورج كينان في «الفورين أفيرز»، غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية، ليشرح فيها الاستراتيجية الأمريكية القاضية ب «احتواء» الاتحاد السوفييتي والحؤول دون تمدد عقيدته الشيوعية.
وكما كان متوقعاً، فقد سعى زعماء دول وحكومات الدول ال 28 الأعضاء في الحلف للظهور بمظهر المتحدين والمتفقين على كل شيء. لكنهم رغم ذلك أخفقوا في التعمية على الخلافات القائمة في ما بينهم، لا سيما حول طريقة التعامل مع روسيا والتي ينقسم حولها الحلف إلى مستويات ثلاثة:
في المستوى الأول تقع الولايات المتحدة زعيمة وقائدة الحلف منذ ولادته في معاهدة واشنطن في إبريل/ نيسان 1949 . وهي تسعى لزج الأوروبيين في مواجهة مع روسيا غير مكلفة لها (حتى الدرع الصاروخية طلبت من الأوروبيين تحمل كلفتها)، بل ومربحة في حال أنهكت هذه المواجهة موسكو فأجبرتها على تقديم تنازلات لواشنطن في أزمات دولية خارج أوروبا(مثل أوكرانيا، سوريا...).

في المستوى الثاني تقع دول المعسكر الشرقي السابق والتي لا تنفك تبرهن بأنها أكثر أطلسية من الأمريكيين أنفسهم. فالرئيس البولوني أعلن بوضوح أن «روسيا هي التهديد الأكبر لأوروبا». وللتذكير فقد كشفت هذه الدول عن انحيازها المفرط لواشنطن منذ العام 2003 ، عندما وجه عشرة زعماء لدول من أوروبا الشرقية والوسطى رسالة دعم إلى الرئيس بوش في نيته غزو العراق، في وقت كانت تعارضه دول حليفة مثل فرنسا وألمانيا وبلجيكا. واليوم لا تزال أوروبا الشرقية تبدو وكأنها تود الانتقام من روسيا لما عانته منها في الحقبة الشيوعية المنصرمة.
في المستوى الثالث تقع دول مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا التي تعتبر أن روسيا ليست خصماً ولا تهديداً، بل ينبغي البحث عن إقامة أفضل العلاقات معها. ورغم حرص هذه الدول على إبداء الانسجام ووحدة الموقف مع أعضاء الحلف الآخرين، فإن برلين وباريس قررتا العمل على تفعيل اتفاقات «مينسك-2» مع موسكو.

من هنا جاء البيان الختامي لقمة وارسو عبارة عن توليفة تحاول التوفيق بين المواقف المتباينة داخل الحلف والظهور بمظهر الحلف المتحد. ومن هنا أيضاً جاء الموقف الرسمي للحلف على لسان أمينه العام، وهو من الصقور بالمناسبة، والذي قال: «نحن لا نرى في روسيا تهديداً لأي عضو في الحلف، كما أنها ليست شريكاً استراتيجياً».

لكن «الأهمية التاريخية» لهذه القمة تكمن ليس فقط في رمزيتها، أي انعقادها في العاصمة البولونية التي شهدت، في العام 1955، ولادة الحلف الذي حمل اسمها قبل أن يحل نفسه في يوليو/ تموز من العام 1991، ولكن أيضاً في القرارات التي اتخذتها، وللمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة، مثل القرار بنشر أربع كتائب (4000 جندي) في دول البلطيق الثلاث وبولونيا، إضافة إلى تفعيل الدروع الواقية من الصواريخ المنتشرة بين رومانيا وإيطاليا وتركيا وتشيكيا.

بالطبع يعتبر الحلف أن هذه الدروع دفاعية وقائية غير موجهة ضد روسيا، بل ضد التهديد الآتي من الشرق. لكن موسكو تعتبرها استفزازاً واضحاً لها وتهديداً مباشراً وخطيراً لأمنها القومي، فالكل يعلم أن لا أحد في الشرق الأوسط أو إيران أو كوريا الشمالية يملك صواريخ بالستية قادرة على إصابة العمق الأوروبي، لذلك «يوحي حلف الأطلسي بأنه يعمل على مواجهة خطر من الشرق، لكنه خطر غير موجود» على حد إعلان وزير الخارجية الروسي لافروف.

وإضافة إلى تدعيم الحدود الشرقية للحلف اتخذ هذا الأخير قرارات تتعلق بتحصين خاصرته الجنوبية الشرقية، مشدداً على «أهمية تأمين أمن الدول المجاورة» مثل أفغانستان والعراق والأردن وتونس وغيرها في البحر المتوسط. ومن أجل محاربة التنظيمات المتطرفة مثل «داعش» تم الاتفاق على مجموعة من الإجراءات تشترك فيها بريطانيا رغم قرارها الخروج من الاتحاد الأوروبي.

ف «المملكة المتحدة لن تلعب دوراً أقل في العالم» على حد تصريح رئيس وزرائها كاميرون الذي حضر قمة وارسو.
في روسيا، وتعليقاً على قرارات قمة الناتو في وارسو، انتشرت تصريحات لجنرالات ومعلقين رفيعي المستوى تؤكد أن الحلف يدفع العالم في اتجاه حرب باردة جديدة، وتقارن الوضع العالمي اليوم بما كان عليه عشية الحرب العالمية الأولى، لتخلص بأننا ننزلق نحو حرب عالمية ثالثة. وفي هذا الاتجاه أيضاً ذهبت بعض التعليقات الصحفية الغربية.
لكن الحقيقة أن التاريخ لا يعيد نفسه، وإن تشابهت الأوضاع فيه بين الفينة والفينة. ثم إن السلاح النووي كشف عن قدرة واضحة على منع الحروب بين الدول التي تمتلكه. وبالتالي فإن التوتر والصراع على المصالح بين روسيا والولايات المتحدة لا يعتم على حقيقة أنهما، خلف الكواليس، تبحثان عن الاستثمار في ما يجمع بينهما من مواقف ومصالح. ومن يراقب الحرب السورية والتوترات الشرق أوسطية عموماً يخرج بالكثير من الأسئلة الملتبسة حول حقيقة مواقف الدول الكبرى، خارج التصريحات والإعلانات.
فلا حرب عالمية باردة كانت أم ساخنة، بل حروب بالوكالة على أراضي الضعفاء في انتظار أن يتفق الكبار على خرائط جديدة لتقاسم النفوذ والمصالح.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"