زيارة البابا والضمير المسيحي الغربي

04:12 صباحا
قراءة 4 دقائق
بينما أكد قداسة البابا فرانسيس الأول أن زيارته إلى الأراضي المقدسة التي بدأها السبت هي زيارة دينية بحتة، فإن وزير خارجية الفاتيكان بيترو بارولين، أعلن أن الزيارة تحمل طابعاً سياسياً أيضاً . وواقع الأمر أن خصوصية دولة الفاتيكان تحمل هذه الازدواجية، فالدولة الأصغر في العالم القائمة في روما (بمساحة أقل من نصف كيلومتر مربع، و800 نسمة) هي كيان ديني في الأساس، وذات رمزية دينية عالية لأكثر من مليار كاثوليكي، ولعدد كبير إضافي من مسيحيي العالم، وليس لديها جيش أو برلمان، أما "شعبها" فينتشر في سائر أنحاء العالم ويدين بالولاء الديني للفاتيكان، بينما يدين بالانتماء لأوطان شتى، وهي في الوقت ذاته دولة عضو في الأمم المتحدة، إنما بصفة مراقب كما هو حال دولة فلسطين .
وبما أن دولة الفاتيكان تعترف بالكيان الصهيوني من دون أية علاقات مميزة معه، فإن زيارة البابا لا بد أن تحمل طابعاً سياسياً، ومن ذلك اللقاء المقرر مع شيمون بيريز، ورئيس حكومة الاحتلال نتنياهو، إضافة إلى الرئيس محمود عباس . ولعل هناك جانباً بروتوكولياً في هذه المسألة، وقد لاحظ من لاحظ أن زيارة البابا إلى القدس حيث الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية، تتم من الجانب الصهيوني (من القدس الغربية المحتلة عام 1948)، رغم أن الفاتيكان كسائر دول العالم لا يعترف بالضم القسري للمدينة المقدسة، ويتبنى موقفاً يقوم على تحييد القدس، أو حتى تدويلها بجعلها مفتوحة لأبناء الديانات وبإشراف دولي عليها . وهو موقف لا يلقى قبولاً أو دعماً من أحد، على الأقل بصورة علنية .
يكتب المرء عن الزيارة البابوية في يومها الأول . ويسترعي الانتباه أن مسيحيي الأراضي الفلسطينية المقدسة قد رحبوا ترحيباً غامراً بالزيارة . فالأطراف الغربية ذات المجتمعات المسيحية الممالئة للاحتلال وبالذات أمريكا، تتصرف بطريقة "علمانية" إزاء الصراع، ما يجعلها تغض النظر عن التعديات الجسيمة على الأماكن الدينية، ويا لها من "علمانية" بائسة، ما يجعل أنظار المسيحيين تتجه إلى الفاتيكان وإلى البابا . فأبناء القدس بمن فيهم من تبقى من المسيحيين كثيراً ما يُمنعون من الوصول إلى أماكن عبادتهم، فيما تعمد سلطات الاحتلال إلى استخدام وسائل التفافية للاستيلاء على أراضٍ وأوقاف مسيحية في القدس، وهو ما أدى إلى نزف بشري ونزوح مسيحي عن المدينة المقدسة، فيما تبدي مؤسسات دينية في الغرب تقصيراً كبيراً إزاء مسيحيي القدس وبقية فلسطين، فبدلاً من تثبيتهم في أرضهم ودعمهم لهذه الغاية، فإنها تسهل خروجهم إلى دول غربية تحت ستار مد يد العون للعائلات المسيحية . أما الزعامات الدينية الإسلامية وفي القدس خصوصاً، فقد رحبت بدورها بالزيارة، باعتبارها فرصة كي يشهد أب الكنيسة الكاثوليكية بنفسه حجم التعديات التي يمارسها الاحتلال ضد حرية العبادة، وأماكن العبادة وضد المؤمنين بما في ذلك تأجيجه لصراع ديني مكشوف، عبر استهداف المسجد الأقصى ومحاصرته، والعمل على تخريب أساساته، فضلاً عن دوام استباحة ساحته من مستوطنين غزاة، وبحماية علنية لهؤلاء من شرطة الاحتلال .
اصطحب البابا معه صديقين شخصيين له هما الحاخام إبراهام سكوركا من الأرجنتين ورجل دين مسلم هو الشيخ عمر عبود من الأرجنتين أيضاً، كي تحمل الزيارة رسالة التآخي الديني بين المؤمنين في العالم، لكن الصهاينة أثبتوا ألف مرة على الأقل أنهم لا يؤمنون بهذه اللغة، فهم ماضون في التهويد القسري وبالسطوة المسلحة للمدينة المقدسة، وكذلك في تهويد دولتهم على أرض فلسطين التاريخية التي تضم الناصرة المدينة المقدسة لدى المسيحيين التي عاشت فيها مريم العذراء ويسوع المسيح حسب الإنجيل .
قلما تنبري الفاتيكان للإعلان عن مواقف ذات طابع سياسي، ولعل مواقفها بهذا الشأن يتم تمريرها عبر قنوات دبلوماسية . ومن هنا فإن التوقعات بهذا الخصوص تظل محدودة . غير أن مجرد القيام بالزيارة يبقى له مدلول ديني كبير، وبقدرٍ من التداعيات السياسية . ففيما يذهب اليمين الصهيوني المتطرف إلى وصف الأراضي الفلسطينية المقدسة بأنها "أرض إسرائيل الكبرى" و"أرض توراتية"، وهو ادعاء ديني ذو هدف استيطاني سياسي، فإن زيارة الحبر المسيحي الأعظم تأتي لتنقض هذا الادعاء، ولتوقظ ضمنياً الضمير المسيحي العالمي على ما يتعرض له غير اليهود في الأراضي المقدسة، وهم أبناء هذه الأرض وورثتها على مرّ التاريخ .
وإلى جانب الحاخام ورجل الدين المسلم اللذين يرافقان البابا، فإن هناك شخصية دينية عربية في قوام الوفد البابوي، هي البطريرك الماروني بشارة الراعي . وشموله بالوفد هو قرار من الفاتيكان، ويتخذ القرار صفة دينية . وقد لاقت مشاركة البطريرك بعض المعارضة السياسية في لبنان . والمأمول أن تقتصر المعارضة على حق الرأي المعلن، ولا تتعداه، وذلك تفادياً لنشوء أية حساسيات . وأن يُترك الاعتراض على زيارة البابا ووفده إلى اليمين الصهيوني المتطرف، الذي ملأ شوارع القدس بشعارات مسيئة للمسيحية ومفعمة بالكراهية استقبلت الحبر الأعظم، وكاتبو هذه الشعارات هم أنفسهم من يستبيحون المسجد الأقصى، علماً أن الزعامات الدينية الصهيونية لم تُبد أي ترحيب بزيارة البابا، ولو من باب المجاملات واللياقات .

محمود الريماوي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"