سؤال آن أوان طرحه

02:44 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو
لا تحتاج مصر الكنانة إلى الاستماع إلى الدروس التي ينبري الكثيرون لإلقائها على مسامعها، بمناسبة تعرّضها لمحنة الجنون الجهادي التكفيري الإرهابي، فبلد حضارة السبعة آلاف من السنين قد أثبت مراراً أنه قادر على مواجهة محن أكبر وخيانات أحقر، بالحكمة والصبر والتسامح والتعاضد المسيحي- الإسلامي، ليخرج منها معافى مرفوع الرأس.
لكن دعنا، نحن كمجتمعات إسلامية، نطرح على أنفسنا سؤالاً تثيره مأساة موت الأبرياء من شعب مصر الغالي وهم يناجون رب العالمين.
السؤال يتعلق بمقدار ما نحمل من مسؤولية تبنِّي ونشر فقه إسلامي متزمت يحكمه تاريخ الصراعات، ويغرق الأرض العربية في عبثية معاداة أصحاب الديانات الأخرى، ويقرأ القرآن الكريم من خلال فهم مجتهدين عاشوا في زمن غير زماننا، وواجهوا قضايا وتحديات ما عادت جزءاً من حياتنا.
ألم ندرّب الدعاة في بعض جامعاتنا ومعاهدنا، ونصدّر خطباء المساجد إلى كل بلاد العرب والإسلام والعالم، ونطبع ونوزع ملايين الكتب، وننشئ عشرات المحطات التلفزيونية الفضائية، فنساهم بذلك في نشر فكر المغالاة والتعصب، ورفض المجادلة بالتي هي أحسن، ومن ثم في توزيع تهم الزندقة والكفر دون رؤية، ودون تقوى الله الغفور الرحيم العادل؟
لم يتم كل ذلك فقط من قبل بعض الجهات والمؤسسات الرسمية، وإنما ساهمت أيضاً جهات أهلية وأفراد موسرون -سواء بقصد أم بغير قصد- في دعم ترسيخ خطاب ديني حامل للكثير من وجهات النظر الفقهية الخاطئة.
وبالرغم من أننا عرفنا -منذ بداية تكوّن «القاعدة» في الثمانينات من القرن الماضي- بأننا أمام أفراد وجماعات لديهم الاستعداد لقلب ذلك الخطاب الفقهي إلى خطاب سياسي عسكري «ميليشياوي» بالغ التطرف والقسوة والجهالة، إلا أننا، وكمصير مشترك، لم نتنادَ لوضع استراتيجية شاملة واحدة لمواجهة ذلك التيار.
كان من المفروض الاتفاق على تغييرات ضرورية في تدريس مقررات الدين الإسلامي في المدارس والجامعات، وإزالة كل ما يدعو إلى العنف والتصلّب الطائفي ومعاداة غير المسلمين.
كان ضرورياً الاتفاق على وضع خطوط حمر لا يتخطاها الخطاب الديني في المساجد والحسينيات والمنابر الاجتماعية الدينية.
كان ضرورياً وضع ضوابط على الخطاب الإعلامي الديني عبر كل وسائل الإعلام، وعلى الأخص الإعلام التخصصي الديني.
كان ضرورياً أن تقوم جهات التشريع بصياغة قوانين تحرم ممارسة كل أنواع الشطط في الفكر والممارسة والتنظيم الديني، وتجعل من الانخراط في اللعبة الطائفية، وفي ادعاءات احتكار التحدث باسم الله في شؤون الدنيا والخلق جرائم تحال إلى المحاكم ويعاقب عليها القانون.
لكن لم يحدث من كل ذلك العمل الجماعي المشترك شيء، وترك الأمر لكل دولة أن تقرأ المشهد الجديد بفكرها الذاتي، وتقاوم سلبياته بإمكاناتها الذاتية. فكانت النتيجة أن تضاربت المصالح وتضادّت الخطوات، و حاد قرار هذه الدولة عن قرار تلك الدولة، الأمر الذي فتح ثغرات يدخل منها كل صاحب شعار متطرف مجنون.
هنا يحقّ للقارئ طرح السؤال التالي: ألم ترتكب كل الدول العربية الأخرى، بل وكل الدول الإسلامية، نفس الأخطاء ونفس الإهمال تجاه التراث الفقهي والتاريخي المتشدد والمتزمت والمشوّه لدين أعلن منذ البداية شعارات التسامح والحرية «لا إكراه في الدين» (البقرة الآية، 256)، و «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» (الكهف، آية29)؟
الجواب هو بالطبع «بلى»، وبالطبع بصيغ وظلال متفاوتة.
ولا حاجة للتذكير بالأعداد الكبيرة للمحطات التلفزيونية والإذاعية الدينية، وبالألوف من الدعاة، وبألوف المدارس الدينية التي ما كان لها أن توجد وتنتشر لولا توفر الدعم المالي السخي.
ولقد كان بإمكان تلك النخوة الدينية، وكل ذلك الجهد الدعويّ أن يبني ثقافة إسلامية مبهرة، تتميز بإعلاء قيم العدل والقسط والميزان والتسامح والأخوة الإنسانية والمجادلة الحسنة والرحمة الربانية، بدلاً من نشر مشاعر الكراهية الطائفية فيما بين المسلمين، والكراهية الدينية فيما بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، بل وتكفير الأنظمة والمجتمعات والشعوب العربية والإسلامية.
القيام بنشر الإسلام، كقيم وفضائل وحرية إنسانية ودعوة للعقلانية وتعارف فيما بين الشعوب، والنّبذ التام لكل العصبيات الضيّقة، كان يمكن تحقيقه لو بنيت استراتيجية شاملة؛ لمواجهة ما بدا واضحاً منذ البداية من أنه رأس عواصف جهادية تكفيرية عنفية قادمة، تحمل معها خراب البلدان ونشر الموت وتشويه الدين، ووضع الدين الإسلامي موضع اللوم والمساءلة وخطر التهميش.
مازال لدى مجلس التعاون خصوصاً، من الدور والوقت والمال والعقول الحكيمة ليساهم في تصحيح مسار فقهي عام يخجل منه نبي الإسلام، ولا تباركه عدالة رب العالمين.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"