سوريا.. حلول داخلية عبثية

04:29 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

في ظروف أخرى، يسودها السلم وتشيع فيها حياة سياسية سليمة، كان من الممكن تأييد منح الأكراد السوريين حكماً ذاتياً، ضمن إطار حكم لامركزي أو فيدرالي أياً كانت التسمية ومنصوص عليه دستورياً، وذلك في مناطقهم شمال سوريا وفي المناطق التي شكلوا على الدوام أغلبية سكانية فيها. فمن حق أبناء هذه القومية أن يتمتعوا بالحد الأدنى من حقوقهم السياسية والثقافية. غير أن الإعلان عما سمي بفيدرالية الأكراد، يوم 17 مارس/آذار الجاري، بدا وكأنه في غير وقته واستباقاً للأمور، ونوعاً من العبث بأولويات السوريين في هذه المرحلة. خاصة أن هذا التوجه تم بغير تنسيق أو تفاهم مع القوى السياسية والاجتماعية السورية. وظهر بصورة فجائية من دون أن يتمتع برعاية جدية من أحد، خاصة من الداخل السوري.
تضم الفيدرالية الكردية ثلاث مناطق هي كوباني (عين العرب) في ريف حلب الشمالي، وعفرين في ريف حلب الغربي، إضافة إلى مناطق في محافظتي الحسكة وحلب.
تبسط وحدات حماية الشعب الكردية سلطتها على هذه المناطق، وتقيم هذه الوحدات علاقة تنسيق ومشاركة مع قوات سوريا الديمقراطية التي تحظى بدعم أمريكي وتأييد روسي. وبينما يقول مسؤولون سوريون منهم (بثينة شعبان) إن وحدات حماية الشعب هي جزء الجيش السوري، فمن الواضح أن مرحلة مديدة من التنسيق بين الجانبين ضد خصوم مشتركين، تؤذن على نهايتها إن لم تكن قد انتهت بالفعل، فقد سارع الحكم للتنديد بخطوة إعلان الفيدرالية (الغريب والطريف هنا أن الفيدرالية تتعلق بعموم سوريا والشعب السوري، ومع ذلك فإن مكوناً واحداً هو الذي أعلنها نيابة عن بقية الآخرين الذين لم يفوضوه بذلك) والتأكيد على وحدة سوريا وشعبها. وهو أمر التقى فيه الحكم مع المعارضة التي اتخذت موقفاً مماثلاً، وزادت على ذلك برفض إضافة حزب الاتحاد الديمقراطي بزعامة صالح مسلم إلى الوفد المفاوض، وعزت ذلك إلى أن المكون الكردي يتمثل بالمجلس الوطني الكردي الذي يشارك في الائتلاف كما يشارك ممثل عن هذا المجلس في الوفد المفاوض بجنيف.
أمريكا التي تجد كما روسيا في الأكراد أفضل حليف لم تؤيد هذا الإعلان وقد اضطرت موسكو من جهتها بعد تصريحات متواترة سابقة عن تقسيم سوريا وعن إقامة نظام فيدرالي إلى إعلان تحفظها على القرار الكردي. أما إيران فلم تجد في هذه الخطوة ما يحملها على الترحيب بها، فطهران حريصة على إطفاء كل حضور وكل إشعاع سياسي كردي في الداخل الإيراني، ولا تطمح لأن تنتقل العدوى إلى الأكراد من مؤيدي حزب العمال داخل إيران. كذلك الحال بالنسبة لتركيا التي ترى في حزب العمال الكردستاني وأذرعه في الخارج حزباً إرهابياً، ولا ترحب بالتالي بأي توجه ذي منزع استقلالي أو انفصالي، رغم أن أنقرة تنسج علاقات جيدة مع حكومة اربيل شمال العراق التي تقيم إدارة ذاتية لا ينقصها شيء من مظاهر الاستقلال عن الحكومة المركزية في بغداد.
ما يسترعي الانتباه أن الإعلان الكردي تم في وقت كانت فيه مفاوضات جنيف السورية قد بلغت إحدى ذراها، وفي وقت كانت فيه موسكو تُلح على مشاركة حزب صالح مسلم في المفاوضات. في واقع الأمر أن الإعلان الكردي بث رسالة بأن مصير أكراد سوريا وربما غيرهم من المكونات يتم حسمه بعيدا عن جنيف، وخارج موائد المفاوضات. وهي رسالة تتعاكس مع توجهات وقناعات السوريين وسائر القوى الإقليمية والدولية التي تراهن على حل سياسي وفق مرجعية جنيف1.. حل يضمن للأكراد كما لبقية السوريين حقوقهم السياسية.
لقد أحسن الأكراد في سوريا استثمار الظروف خلال السنوات الخمس الأخيرة وفرضوا أنفسهم على الخريطة السياسية والعسكرية، وواقع الحال أن الإدارة الذاتية قائمة في القامشلي والحسكة ومناطق أخرى منذ أواخر العام 2013. غير أن مسار الأحداث في هذه المرحلة على الأقل يثبت أن طرفاً بعينه لا يستطيع المضي في مشروعه الخاص بمعزل عن توافق داخلي مع بقية المكونات، بما في ذلك النظام نفسه الذي يتمتع بدعم عسكري مباشر من قوتين كبيرتين هما إيران وروسيا، ومع ذلك فإنه عاجز عن المضي في الحفاظ على النظام القديم، وقد انضمت روسيا جزئياً وخاصة عقب سحب القسم الرئيسي من قواتها من سوريا، إلى دول الإقليم والمجتمع الدولي في الضغط على النظام للتخلي عن خياراته الصفرية والتوافق مع المعارضة حول مستقبل سوريا.
وفي نهاية الأمر فإن هذا الإعلان هو آية على مخاطر تفكك هذا البلد، وقد بدأ هذا التشرذم بصورة بالغة المأساوية بقذف ملايين السوريين خارج الحدود، فإذا لم يتقدم الحل السياسي إلى الأمام في غضون هذا العام 2016 فإن مسلسل الخسارات لن يتوقف وقد يتضاعف وبصورة يصعب تدارك نتائجها في المستقبل.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"