سوريا.. مأساة يستثمرها الكبار

03:05 صباحا
قراءة 3 دقائق
كما أن السياسة بلا أخلاق ولا مبادئ منذ أن أرسى ميكيافيلي قاعدتها البغيضة «الغاية تبرر الوسيلة»، فإنها أيضاً بلا قلب ولا مشاعر وتلك قاعدة أخرى أقرها القائد الفرنسي الشهير نابليون بونابرت بقوله إن قلب رجل الدولة يجب أن يكون في رأسه. المعنى الذي أراده هو أن السياسي يتخذ قراره على أساس المصالح وليس العواطف الإنسانية مهما كان الأمر قاسياً.

مأساة سوريا تجسد حضور هذه المفاهيم السياسية بقوة في سلوك الدول المنخرطة في الأزمة وفي مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا. سوريا بحربها وكارثتها الإنسانية هي أحد ملفات العلاقات المتشابكة والمعقدة بين هاتين الدولتين. وهي بهذا المعنى محطة في السباق التقليدي الدائم بينهما على اقتسام مناطق النفوذ والمصالح والمغانم العسكرية والاقتصادية والسياسية. وهي أيضاً لا تعدو كونها ورقة ضغط يساوم بها أحد الطرفين الآخر عندما يحين وقت إبرام الصفقات السياسية الكبرى. عندها ستكون المسألة السورية مطروحة مع ملفات أخرى مثل أوكرانيا وكوريا الشمالية والعلاقات مع إيران وقضايا التسليح والأمن وغيرها.
في إطار هذا الصراع الدولي يمكن النظر إلى الضربة الصاروخية التي وجهتها الولايات المتحدة إلى قاعدة عسكرية جوية سورية رداً على قصف مدنيين بأسلحة كيماوية. وفقاً للحسابات الأمريكية كان مطلوباً لأسباب تتجاوز سوريا بكثير توجيه رسالة قوية وصارمة إلى الرئيس الروسي بوتين. وجاء استخدام الأسلحة الكيماوية ليحدد مكان وزمان تسليم هذه الرسالة.
بالطبع هناك أهداف داخلية دعت الرئيس الأمريكي ترامب لتوجيه الضربة في مقدمتها وقف نزيف شعبيته. ولكن من منظور استراتيجي وفي إطار الصراع العالمي الأوسع نطاقاً بين واشنطن وموسكو كانت هذه الضربة ضرورية من وجهة النظر الأمريكية كإجراء قوي لتحذير بوتين من عواقب التمادي في سياساته الحالية. ذلك أن واشنطن تتابع بقلق نشاط روسيا المحموم لاستعادة الكثير من مناطق نفوذها السابقة، وسعي بوتين الدؤوب لإحياء دور بلاده كقوة عالمية عظمى.
الشواهد على ذلك كثيرة ورصد بعضها اثنان من كبار المتخصصين الأمريكيين في الشأن الروسي هما مايكل هوريل نائب مدير المخابرات الأمريكية من 2010 إلى 2013 وايفيلين فاركاس نائبة مساعد وزير الدفاع لشؤون روسيا وأوكرانيا في إدارة أوباما.

ملاحظات الباحثين تضمنها تقرير نشرته «نيويورك تايمز»، وأشار على سبيل المثال إلى أنه في يناير الماضي صعّدت الميليشيات المسلحة المدعومة من موسكو في شرق أوكرانيا هجماتها ضد القوات الحكومية المدعومة من واشنطن. وفي الشهر التالي قرر بوتين الاعتراف بجواز السفر الذي تصدره إدارتان انفصاليتان في شرق أوكرانيا. ثم اتخذ إجراء آخر أزعج واشنطن في أواخر الشهر نفسه بالموافقة على قرار إقليم لوهانسك الانفصالي في شرق أوكرانيا باستخدام العملة الروسية كعملة رسمية. ومن الطبيعي أن تشعل هذه الخطوات الغضب الأمريكي المتقد منذ قرار بوتين بضم شبه جزيرة القرم.

في شرق أوروبا أيضاً واصل بوتين فرض إرادته ونشر في يناير قوات إضافية على الحدود مع بيلاروسيا للضغط عليها لقبول حجم القوات الروسية المتضخم في أراضيها. وفي مارس قرر دمج قوات إقليم أوسيتيا الجنوبية الانفصالي في جورجيا مع قوات بلاده.
لم يستثن التحرك الروسي آسيا وإفريقيا وقد كشف الجنرال كورتس سكاباروني أرفع مسؤول عسكري أمريكي في أوروبا الشهر الماضي عن أن روسيا طورت علاقات تعاون مع حركة طالبان الأفغانية تشمل تزويدها بالسلاح. على الجبهة الإفريقية ترصد الأجهزة الأمريكية نشاطاً روسياً واضحاً على الساحة الليبية وتدخلاً لدعم بعض أطراف الصراع عسكرياً.

لكل هذا كان لابد لواشنطن أن تحذر بوتين لكي يوقف جموحه وقد أرسلت تحذيرها العملي عبر سوريا. ومن المؤكد أن ضربتها الصاروخية الأخيرة لن تنهي معاناة السوريين، فلم تؤثر في موازين القوة القائمة أو تشل قدرة النظام على مواصلة الحرب. ولو شاءت واشنطن تحقيق ذلك لفعلت ولكنه ليس هدفها. أرادت فقط إبلاغ رسالة إلى بوتين وقد وصلت وانقضى الأمر.

عاصم عبد الخالق
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"