سوريا مسألة إقليمية ودولية

01:45 صباحا
قراءة 4 دقائق
حسام ميرو
يبدو من الظلم للسوريين بعد مرور خمس سنوات ونيف من الحدث السوري الكبير أن تلقى التبعات الكارثية على عاتق السوريين وحدهم، وتحميل الأطراف الداخلية وزر المآلات الراهنة، فقد انفتح الصراع الوطني السوري، منذ نهايات 2011، على أبعاد خارجية كان لها كبير الأثر في تغيّرات المشهد السوري، وسرعان ما أخذت الديناميات الخارجية تفرض نفسها كجزء من الصراع، بل أصبحت أكثر فاعلية من إرادة ومصالح الأطراف الداخلية.
وبات معروفاً أن مسيرة «الربيع العربي» ترافقت مع تغيّرات في منظومة الأمن الإقليمي، بل وفي تغيّر علاقة الإقليم مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث شكّل الانكفاء الأمريكي، وما نجم عنه من مخاوف، أحد أبرز المعطيات في علاقات القوة، وفي تبدل مواقف اللاعبين الإقليميين. وسنرى لاحقاً أن الصراع في الشرق الأوسط عموماً سيأخذ أبعاداً جديدة، حيث ستتضاءل مركزية الصراع العربي -«الإسرائيلي»، وتتراجع إلى خلفية المشهد، وسيحلّ محل هذا الصراع المركزي صراعٌ جديد، سيكون فيه للدولتين الجارتين للعالم العربي، أي إيران وتركيا، دور مهم وأساسي.
وككل صراع وطني، فإن المسار الرئيس يكون هو مسار الصراع الداخلي بين القديم المتمثل بالنظام السياسي وبين الجديد المتمثل بالقوى الطامحة للتغيير، وفي المثال السوري كانت انتفاضة آذار/مارس 2011 استحقاقاً تاريخياً لإحداث اختراق في بنية النظام السياسي المغلق، وإحداث تحوّل يجعل من التعددية السياسية بديلاً لاحتكار السلطة والنفوذ، مترافقاً مع حركة مطلبية لتحقيق قدر من الكرامة والحرية في علاقة الدولة بمجتمعها، وهو ما يعني تماماً إشراك فاعلين جدد في صناعة القرار، وإقرار دستور جديد يضمن تغيير الأشكال المؤسساتية القديمة، بما يسمح للقوى الحية في المجتمع أن تسهم في صياغة مستقبلها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
إن الاستعصاء الداخلي الذي شهده الحدث السوري هو استعصاء قائم في بنية القديم (النظام السياسي وعلاقات القوة)، ما أفقد هذه البنية أية مرونة في التعاطي مع القوى الداخلية، وجعل حسم الصراع بالطرق السياسية والوطنية أمراً يقارب المستحيل، خصوصاً في ظل جملة من الارتباطات والتحالفات التي أقامها النظام السياسي السوري، وجعلها أحد الأسس المهمة في شرعيته السياسية، والتي راهن عليها في مواجهته مع مطالب التغيير الداخلية، وهو أمر سيغدو مفهوماً أكثر فأكثر مع تطور الصراع، حيث ستتبوأ أهمية التحالفات الخارجية للنظام مكانة متقدمة في الرهان على حسم الصراع، وليس هذا بالأمر العسير على الفهم في سياق تحليل الدولة الوطنية في العالم العربي، وتحليل أنظمتها السياسية، فتآكل الشرعية الداخلية على مرّ العقود جعل الأنظمة تستمد مقومات بقائها من دورها الوظيفي الذي تقدمه في المنظومتين الإقليمية والدولية، وليس النظام السياسي السوري باستثناء عن هذه القاعدة، بل هو أحد أكثر أمثلتها بروزاً ووضوحاً، منذ 1976، وهو تاريخ التدخل العسكري السوري في لبنان، وتحول النظام السوري منذ تلك اللحظة إلى نظام وظيفي سياسياً، يعتاش على ريع هذا الدور الوظيفي.
ومنذ 2012 بات واضحاً مع تحول الصراع من صراع سلمي إلى صراع عسكري، أن السوريين يفقدون دورهم لصالح الدول الإقليمية، وقد تكرّس دور الخارج مع سقوط سيادة الأذرع الأمنية والعسكرية على جزء مهم من الجغرافيا، وصعود تنظيم «داعش» كلاعب رئيس على مجريات الصراع السوري في 2014، وتحوّل بنك الأهداف الدولي في سوريا من إيجاد حلّ للصراع بين النظام وقوى المعارضة والثورة إلى القضاء على «داعش»، خصوصاً مع تبني التنظيم لعمليات إرهابية في أوروبا.
إن السيناريوهات المتعددة التي وضعتها دول الإقليم في تصورها لمآلات الصراع السوري، ومنها سيناريو التقسيم، بوصفها سيناريوهات تخدم صراعاً إقليمياً أكبر على رسم ملامح القوة والنفوذ في ظل استراتيجيات الأمن القومي لكل دولة على حدة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحدث السوري في محصلته يشكل خطراً وفرصة في آن واحد، فقد كان من الطبيعي أن تكون حسابات المخاطر والفرص هي المحرك الرئيس للسياسات تجاه سوريا التي تحولت إلى «الرجل المريض»، والذي يهدد انهيارها كيانات دول أخرى، كما من شأن هذا الانهيار أن يوسع نفوذ بعض الدول الإقليمية والدولية، وأن يتيح لبعض اللاعبين تطوير دورهم، ومثاله البارز إيران وروسيا.
وحين نصف الصراع السوري بأنه مسألة إقليمية ودولية فذلك لأن هذا الحدث بات سؤالاً راهناً تحدد إجابته مصالح قوى إقليمية ودولية، كما أنه فتح المجال أمام بروز أسئلة أكثر عمقاً ودلالة، مثل سؤال الهويات، والتي باتت تلعب دوراً مهماً في الصراع، كما بات الحشد عبر الهويات أحد أشكال الاستمرار في الصراع، حيث تتخذ المصالح لبوساً أيديولوجياً، سابقاً على الدولة الوطنية، ومتجاوزاً لها في آن، فصعود الهويات الفرعية هو ضريبة تأكل الدولة الوطنية السورية، كما تمّ استثماره من قبل اللاعبين الإقليميين.
هل يمكن اليوم تصور شكل المخرج من الوضع الراهن عبر إرادة سورية مستقلة؟ من المؤكد أن الوقت فات كثيراً على حلٍّ يُقدم عليه السوريون، فلم يعد بإمكانهم رسم خريطة طريق لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح القوى المتصارعة على الأرض السورية، لكن ما يدفع إلى التشاؤم هو أن القوى الإقليمية نفسها لم تصل في صراعها البيني إلى وضع تصورات مشتركة وعقلانية لضمان مصالحها، فما زالت طرق إدارتها للصراع في سوريا تنم عن مقدارٍ كبير من الوهم، وعن مسافات وساعة من تباين المصالح.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"